أستكمل ما بدأته حول معادلة الدواء في مصر، وكنت
قد أشرت إلى اقتباس من دراسة للأستاذ الدكتور محمد رؤوف حامد، العالم الجليل،
أستاذ الرقابة والبحوث الدوائية، وهو غني عن التعريف في الوسط الدوائي والطبي
وأيضًا في الأوساط الفكرية والثقافية والسياسية الجادة، والاقتباس الذي سأستكمله
في مقال اليوم منشور في الدورية الجادة "أحوال مصرية"، التي تصدر عن
مركز الدراسات بمؤسسة الأهرام، ويرأس تحريرها الباحث والخبير المرموق الدكتور أيمن
عبد الوهاب.
وقد كتب الدكتور حامد عن ضرورة ملحة لإنشاء ما
أسماه المجلس الأعلى للدواء، ورغم أن بعض التعليقات التي تلقيتها على مقال الأسبوع
الفائت اتجهت إلى أنه كفى مجالس عليا في كل شيء؛ لأنها أصبحت عنوانا على عدم
الفاعلية وستارا لمزيد من الترهل والمجاملات، إن لم يكن ما هو أكثر من ذلك، إلا
أنني حريص على عرض وجهة نظر أستاذ متخصص ومثقف وطني من طراز رفيع، فلعل وعسى
يطالعه الذين قد يطالعون هذا المقال وليست لديهم فرصة لمتابعة الدوريات الفصلية..
ويشير الدكتور حامد إلى أن الحاجة للتغيير لا تعني أبدا إيجاد بدائل للكيانات
الدوائية القائمة، ولا تعني تغيير العاملين فيها، ولا تعني أن ما هو موجود غير
طيب، ولكن ولأننا في القرن الحادي والعشرين فيكون التغيير بالأساس بتطوير السياسات
والاستراتيجيات وحسن متابعة وترشيد التنفيذ، ثم بصناعة إبداعية للتوافقات
والتناغمات، عند التطبيق، وليس فقط في السياسات والاستراتيجيات، وعلى صعيد
السياسات نأخذ في الاعتبار تضاريس الواقع من ناحية وتضاريس ما نسعى إليه من ناحية
أخرى، وفي الاستراتيجيات يجب أن نضع الإجابة عن سؤال "كيف"، بعد ذلك
تأتي عمليات ما أسماه الدكتور بالتمكين والتشبيك والارتقاء بالكيانات القائمة
بالفعل من داخلها ومن خارجها.
وهنا يقول الأستاذ الدكتور حامد- نشير إلى
الضرورة الوطنية لإنشاء مجلس أعلى للدواء، لتتركز مهامه في إدارة الدفة بشأن تطوير
صناعة وسياسات الدواء، وبينما يمثل المجلس الحكومة في عمليات تصحيح الأوضاع
القائمة فإنه يكون أيضا بمثابة العامل المساعد المنظومي لكافة الكيانات الدوائية
القائمة داخل وخارج الحكومة، من أجل تحقيقها لمهامها والارتقاء بهذه المهام، وهكذا
تتضمن مهام المجلس أهدافا مثل:
-
رعاية وترشيد التعامل (والعلاقات) بين مختلف وزارات الحكومة من ناحية والكيانات
الدوائية في عمومها من ناحية أخرى.
-
تنظيم عمليات التوصل إلى السياسات الدوائية على اختلافها (بخصوص إتاحة الدواء أو
بخصوص الصناعة) وكذلك عمليات تطوير هذه السياسات.
-
استيعاب المتغيرات العالمية في إدارة اقتصاديات الصناعة الدوائية (مثل العملقة
والتحالفات وشبكات البحوث والخصخصة البحثية)، وكذلك إدارة سياسات إتاحة الأدوية
للمواطنين، مع استحداث أنشطة وتحويرات موازية أو مناظرة لها تبعا للظروف الوطنية.
-
دراسة وتشجيع وتنظيم التعامل الرشيد مع الشركات والتحالفات العالمية بهدف اكتساب
معارف وتقنيات جديدة.
-
دراسة وتقييم اقتصاديات الشركات الوطنية للدواء وذلك بهدف تعظيم إمكانات التشبيك
في المصالح بين هذه الشركات وبعضها، من أجل الصالح الدوائي الوطني العام (مثل
التشبيكات المطلوبة من أجل تنمية القدرات البحثية على إحداث تطويرات دافعة لتقدم
الصناعة).
-
رعاية عمليات استغلال براءات الاختراع الأجنبية من الناحية العلمية (وليست التجارية)
في تعميق القدرة الوطنية على ممارسة "هندسة عكسية" للمنتجات والعمليات
الدوائية.
-
تعظيم التواصل الأفقي مع الموارد المحلية والإقليمية القائمة (الصناعات
البتروكيماوية والتعدينية- النباتات والحيوانات في البر والبحر.. إلخ).
-
استخدام التعليم كآلية رئيسية في التغيير التكنولوجي الدوائي، وذلك من خلال
التحالف بين الدراسات العليا في الكليات ومراكز البحوث من ناحية، وشركات الدواء
وسائر الكيانات الدوائية من ناحية أخرى.
-
تحفيز الإعارة المتبادلة بين الكليات العملية ومراكز البحوث من ناحية وشركات
الدواء من ناحية أخرى.
-
تصحيح معايير تقويم الصناعة الدوائية المصرية، وذلك من خلال الاحتكام إلى معايير
مثل: القيمة المضافةAdded Value - البراءات ذات المردود
التجاري- تقديم مواد دوائية جديدة، تقليص نسبة الإنتاج بتراخيص أجنبية- تطبيق أحدث
عمليات ونظم الجودة.. إلخ.
-
تنظيم المنافسة المحلية، بحيث تأخذ في الاعتبار تكامل المسار التكنولوجي على
المستوى الوطني (المواد الخام- التشكيل الصيدلي المتطور- التكنولوجيا الحيوية..
إلخ)، مع تحفيز التنافسية داخل كل اتجاه.
-
استخدام وسائل صريحة للتحفيز على التطوير التكنولوجي (مثل الضرائب- التسعير- الجوائز..
إلخ).
-
تصنيف الصناعة القائمة إلى مستويين، أحدهما خاص بصناعة الأدوية التي زالت عنها
براءات الاختراع، والآخر صناعة تمارس أيضا التطوير العلمي والتكنولوجي المباشر، مع
صنع أدوات تقييم وتحفيز متنوعة لكلا النوعين.
-
إدخال إدارة التعبير التكنولوجي في كافة الكيانات الدوائية من شركات ومنشآت بحثية
وإدارات حكومية.
وعليه فإن الشأن الدوائي المصري يحتاج- سواء
فيما يتعلق بالصناعة أو بالسياسات الخاصة بإتاحة الدواء لمن يحتاجه- إلى
"الحركة" وإلى "الإيقاع"، وذلك حتى يمكن أن يكون للزمن معه
(أي مع الشأن الدوائي الوطني) معنى إيجابي.
وليس من الممكن توافر طريق إلى ذلك بغير وجود
سياسات واستراتيجيات، ولن توجد سياسات واستراتيجيات حقيقية فاعلة في غيبة ربط وطني
صميم لـ"الفعل الدوائي" بـ"الفكر الدوائي".
بغير ذلك يستمر تحرك زمن الآخرين في الدواء
بأسرع من تحركنا، وفي المقابل، مطلوب الربط بين السياسات والاستراتيجيات الوطنية
للدواء، حتى تبدأ المسيرة الحقيقية للتقدم الدوائي الوطني للوصول إلى التمكين
والقدرة.
هذا التغيير يقود- ليس فقط- إلى استيعاب
المتغيرات العالمية في الصناعة والسياسات، وإنما يقود أيضا إلى إمكانية التأثير في
هذه المتغيرات، وهو ما سيجعل لشكل الزمن الخاص بالشأن الدوائي المصري شكلا مختلفا
تماما.
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 23 نوفمبر 2016.
No comments:
Post a Comment