Thursday, 10 November 2016

الحدأة البريطانية تجود بالكتاكيت!




انتهى الزمن الذي كنا نقول فيه متسائلين متعجبين من لص يعيش على الخطف والسلب مما لدى الآخرين، ثم إذا به يدعي الكرم والتمسك بالقيم العليا: "منذ متى ترمي الحدأة بالكتاكيت"، وهو مثل عامي شائع يطلق على مثل تلك الحالة، حيث الحدأة "الحداية" لمن لا يعرف، وخاصة من الأجيال الطالعة، طائر جارح يجمع بين الاقتناص وأكل الجيف في آنٍ واحد، وكان ينتشر مع الغربان بكثرة في ربوع مصر، ويعمد إلى خطف صغار الطيور المنزلية الداجنة من دجاج وبط وأوز، بل وأحيانًا صغار الحيوانات كالأرانب والفئران بل والماعز الرضيع!.. ثم جاءت فترة اختفت فيها الحدأة بعد شيوع استخدام المبيدات الحشرية على نطاق واسع لمقاومة الآفات الحقلية، فكانت الحدأة تموت أثر تناولها وجبات مسمومة بتلك المبيدات، التي فتكت بالبيئة والإنسان في مصر!

وعلامة انتهاء ذلك الزمان هي التقرير الصادر عن لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني تبرئ فيه الإخوان المسلمين من تهمة الإرهاب، وهو تقرير طويل وددت لو اقتبسته كله، لأنه حافل بما يجب أن نناقشه ونبحثه، ثم نبذل الجهد عبر دبلوماسية مصر الرسمية، وعبر جهود جهات أخرى غير رسمية لتوضيح المغالطات والجهل المعلوماتي التاريخي والسياسي والقانوني لدى تلك اللجنة في البرلمان البريطاني!

ويمكن مناقشة الأمر بطريقتي بدء مختلفتين لكنهما تصبان في نتيجة واحدة، إذ قد نبدأ من تحليل رؤية ومنهج الإخوان ورصد ممارساتهم في العقدين الأخيرين، أو أن نبدأ من تحليل نشأة ومسار ورؤية ومنهج الإخوان منذ التأسيس عام 1928!

ومن المهم أن تتضمن المناقشة تحليلاً لما أسماه التقرير البريطاني بالقيم البريطانية التي أشار إليها غير مرة، مؤكدًا أن الخارجية البريطانية حادت عنها في أمرين، الأول اتخاذ موقف سلبي من الإخوان، والثاني عدم إدانة ومواجهة النظام العسكري في مصر!!.. وفي ظني أن التقرير أصاب صميم القضية التي نتحدث عنها، خاصة مسألة إدانة ومواجهة "النفوذ الذي يمارسه العسكر في مصر"، حسب نص التقرير!

هذه هي الحدأة البريطانية، التي ظلت لعشرات العقود تخطف أوطانًا بأكملها وعلى رقعة من الأرض لا تغيب الشمس عنها.. أوطانًا بأكملها ببشرها ومواردها وثرواتها وتراثها وآثارها وإرادتها، خطفتها بريطانيا العظمى وصادرت حاضرها ومستقبلها، وكان من أسلحتها السلاح الأقوى من أية قنبلة نووية وهو سلاح "فرق تسد"، الذي كان الأساس لظهور تنظيم الإخوان المسلمين عام 1928، بعدما تنامت الهجرة اليهودية الصهيونية إلى فلسطين بمعاونة ورضا من بريطانيا وتنامى الفرز الطائفي في المنطقة، وكان من المتعين ظهور الإخوان كحركة تدعي المرجعية الإسلامية ليكتمل الاستقطاب وتتهيأ المنطقة لما جاء بعد ذلك، ونرى ذروته الآن حيث تحول الاستقطاب العرقي والجهوي الديني والطائفي إلى حروب أهلية وإلى تفتيت وتفكيك، ويبدو أن بريطانيا كانت قد اكتشفت استعصاء شعوب المنطقة على أن يتم تفتيتها وتفكيك أوطانها بيد أجنبية، وأن الأجدى والأكثر فعالية هو أن يتم التنفيذ بيد بعض أبناء هذه الأوطان لكي يقبل منهم ما لم يتم قبوله من الآخر الأجنبي! وهذا ما نلحظه بدقة ووضوح في نشأة ومسار حركة الإخوان المسلمين!

ثم إنه يبدو أن لجنة البرلمان البريطاني لم تعتمد إلا على الوعي بأهمية استمرار تقسيم وتفتيت وتفكيك المنطقة، لكي تنتهي ولأمد غير منظور أية احتمالات لوجود تكتل أو تكوين عربي له ميول استقلالية وتحررية، ويرفض العنصرية الصهيونية من جانب، ومن جانب آخر لكي يؤدي وجود حكم إخواني إلى استقطاب حركات الإسلام السياسي، التي تهدد مجتمعات أوروبا، بمعنى أن تتم إعادة تصدير العنف إلى أوطانه الأصلية حتى يقوم الفخار بتكسير بعضه البعض!!، ولم تلتفت اللجنة وهي تتحدث عن القيم البريطانية العريقة في الديمقراطية وخلافه، إلى أدبيات الإخوان نفسها في كتابات ورسائل حسن البنا ومؤلفات سيد قطب، ثم ممارساتهم الفعلية على أرض الواقع، سواء وهم خارج الحكم أو وهم على أريكته، حيث الإقصاء المبني على أسس طائفية وسياسية موجود بأقوى صوره، وحيث الاستئثار بالسلطة والثروة متجلٍ بأوضح صيغة، ثم وهو الأهم ارتباط وجود الإخوان في قمة الحكم لمجتمع متعدد الأديان والطوائف، ولم يعرف من قبل حكمًا ذا مرجعية دينية في عصره الحديث بظهور موجات من التطرف والعنف المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، سواء أخذ التطرف سمة دينية وطائفية أو أخذ سمة فكرية وثقافية وسياسية، بل قد يتجلى أيضًا في التمييز الجنسي بين الرجال والنساء!

تتحدث اللجنة البرلمانية البريطانية عن الديمقراطية والقيم البريطانية مثلما ترمي "الحداية الكتاكيت"، أي أنه من المستحيل لمن تاريخه تاريخ خطف أوطان ونهب ثروات أمم وإذلال شعوب بأكملها، ولمن حاضره السعي لتفتيت وتفكيك مجتمعات عرفت التماسك والمركزية، وناضلت من أجل حريتها عقودًا طويلة أن يظهر فجأة كواعظ يعظ بالديمقراطية ويعلي من شأن قيمه هو.. تلك القيم التي لم تنعكس لحظة واحدة في تاريخ الاستعمار البريطاني خلال القرنين التاسع عشر والعشرين!

إن هناك فقرات في تقرير لجنة البرلمان البريطاني شديدة الدلالة، وقد توقفت على سبيل المثال أمام فقرة تقول بالنص، وأنا هنا أقتبس من النص الذي نشره موقع "المصريون": "لم تصنف المملكة المتحدة جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، ونحن نتفق معها في هذا القرار، إذ تصرح جماعة الإخوان المسلمين بأنها لا تطمح إلى تحقيق أهدافها من خلال العنف، ولكننا نلاحظ أن الحكومة - البريطانية - تعتقد بأن الجماعة قد تكون مستعدة للتفكير بتبني العنف فيما لو لم يجد التدرج نفعًا. ومع ذلك فإن ما يتوافر من دليل حتى الآن من داخل مصر يشير إلى أنه لو دعمت جماعة الإخوان المسلمين العنف أو أقرته لكانت مصر اليوم مكانًا أكثر عنفًا بكثير"!!

هذا يعني وبالفم الملآن أن البرلمان البريطاني يوافق على درجة العنف الموجود الآن في مصر، لأن البديل هو العنف الأكثر فيما لو دعمت جماعة الإخوان ذلك وأقرته، وكأن الذين فجروا أبراج الكهرباء ونشروا السيارات المفخخة لتغتال من اغتالت من شهدائنا، وأطلقوا الرصاص وفجروا القنابل لم يكونوا من الإخوان!

نحن أمام مهمة أراها ثقيلة على دبلوماسيتنا الرسمية، وعلى الجمعيات والشخصيات المؤهلة للعب دور مع المجتمع والبرلمان البريطاني، ثم على إعلامنا المكتوب والمرئي لكي تتضح الصورة، ولكي نحاول إفهام الخواجات في برلمانهم أن من مصلحة بريطانيا التعامل مع المتغيرات التي طرأت على المنطقة، منذ جلاء قواتهم وقواعدهم عنها في مطلع الخمسينيات، وأن عجلة التاريخ لن تدور للوراء أبدًا!
                                  

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 10 نوفمبر 2016.

No comments:

Post a Comment