في فواصل الردح التي تخللت الانتخابات
الأمريكية، حتى كادت تلك الانتخابات أن تتحول كلها إلى فاصل ردح، فشر حواري حوش
بردق، كشف المرشح الذي صار رئيسا، دونالد ترامب، عن الدور الذي لعبته الإدارة
الأمريكية بقيادة أوباما وهيلاري كلينتون في خلق الإرهاب وتشجيعه، وفي تفكيك وهدم
دول بأكملها وقتل مئات الألوف وتشريد الملايين، عدا عن الدمار الهائل الذي سيستنزف
كل الموارد لإعادة إعماره.. وفيما كنت أشاهد ترامب وهو يتحدث في هذا الأمر، سألت
من معي وكنا على الهواء في برنامج تلفزيوني: "أين هؤلاء الذين كانوا يجلدوننا
ويتهموننا بالجهل وفقر المعلومات والمرض الذي تبدو أعراضه علينا عندما نتكلم أو
نكتب عن دور أمريكي في تحطيم وطننا ومنطقتنا؟! أين هم الآن وهل ستعرف وجوههم حمرة
الخجل، أم أنهم سيواصلون العجرفة ويتهمون ترامب بالجهل وفقر المعلومات وأنه مصاب
بمرض الانفصام الذي يوحي لصاحبه بوجود مؤامرة عليه؟!.. ولو أن ترامب امتلك القدرة
على تقديم هيلاري للمحاكمة بالتهم التي وجهها إليها، فإنني أظن أن كتاب المارينز
وخبراء الاستراتيجيا إياهم سيستمرون في تصوير الأمر على أنه أوهام غير حقيقية تعلق
كل المشاكل على عاتق الإدارة الأمريكية.
سبب هذا المدخل لهذه السطور هو أن السادة
الخبراء إياهم، هم في الوقت نفسه المدافعون الشرسون عن مصالح ومناهج ومواقف وأموال
ما يسمى بالرأسمالية المصرية، وسأشرح لماذا أقول: "ما يسمى" وكأن المسمى
هو غير ذلك!
ما يسمى بالرأسمالية المصرية وخدمها من بعض
الكتبة و"خبراء الاستراتيجيا"، كانوا يراهنون على استمرار منهج الإدارة
الأمريكية مع فوز هيلاري بالرئاسة، ومن ثم كانوا مطمئنين إلى أنهم لن يفقدوا
الظهير والسند والموجه الذي يجعلهم فوق القانون، ويقدم لهم الحماية للدرجة التي
أعادت لأذهاننا ما كان يحدث في مصر إبان الاحتلال البريطاني، عندما كان مصريون أو
أجانب يدوسون القانون فإذا اقترب منهم أحد صاحوا "حماية"!
تلك الرأسمالية وخدمها إياهم كانوا يحجمون عن
أية مساعدة أو تفاهم جدي مع نظام 30 يونيو بقيادة الرئيس السيسي، لأن الإدارة
الأمريكية كانت غاضبة عليه، ولأنها كانت تريد استمرار الإخوان والأصوليات
الإسلامية في الحكم، وتريد تفتيت وتفكيك مصر على غرار ما نجحت فيه في العراق
وسوريا وليبيا واليمن ومن قبل السودان، وأظنهم كانوا يراهنون على عودة الإخوان، إن
عاجلا أو آجلا، ويساهمون بتعمد خنق النظام اقتصاديا وإعلاميا على التعجيل برد
الاعتبار للسياسة الأمريكية وبعودة الإخوان!
والآن، وبعد فشل هيلاري وظهور آفاق جديدة مغايرة
في السياسة الأمريكية، وفق تصريحات ترامب، هل تفيء ما يسمى بالرأسمالية المصرية إلى
الرشد، وتبدأ في رد اعتبار نفسها لتصبح رأسمالية حقيقية، مثلما هي رأسماليات
العالم الحر؟!
لقد بادر النظام في مصر بالبدء في خطة الإصلاح
الاقتصادي طويل المدى، وظهر أنه لا يبالي بما قد يصادف مصيره إذا تم تنفيذ تحرير
سعر صرف الدولار وتعويم الجنيه ورفع أسعار بعض السلع، واستند في عدم مبالاته إلى
ثقته في أن الشعب المصري يقبل دفع ثمن السعي لحياة محترمة، حتى لو تجرع مرارة
الدواء، وسمعت بأذني حكمة شعبية جبارة تقول: "إن من اشترانا بروحه ودمه لن
نبيعه بكيلو سكر وزيت".. يقصدون الجيش المصري والشرطة والسيسي!، وهنا نسأل عن
حمرة الخجل في وجوه ما يسمى بالرأسمالية وخدمها، لأنهم يظهرون وكأنهم ليس عندهم
نقطة دم تسري في عروقهم، وإنما يسري فيها الجشع والتملك والاستحواذ وفاحش الربح
الذي هو من صميم الربح الحرام!
عندئذ يكون علاج من لا "دم" عنده،
بالشروع في سن قوانين واتخاذ إجراءات لتتحمل تلك الفئة نصيبها من خطة الإصلاح وذلك
بالضرائب التصاعدية، وبوقف أي دعم لها سواء كان مباشرا أو غير مباشر، ثم بمحاسبتها
عن حق الدولة في السنين الطويلة الفائتة التي كانوا يحصلون فيها على كل ما يريدون
بأبخس الأسعار أو مجانا يعني "بلوشي"!
لقد أصبح الحكم في مصر وبكل مستوياته مدينا دينا
مضاعفا لشعب مصر الذي لم يتردد عن إنجاز 30 يونيو، وعن تمويل مشروع قناة السويس،
عندما أحجمت تلك الرأسمالية الجشعة المنحطة، وعن التصدي للإرهاب وبذل أرواح أبنائه
من المدنيين جنبا إلى جنب رجال الجيش والشرطة، وعن تقبل مرارة جرعات الإصلاح
الاقتصادي، وعن إفشال التحريض الإخواني على الفوضى في 11 نوفمبر!، ولذلك فإن الكرة
الآن في ملعب الحكم ليكون منصفا وعادلا في توزيع أعباء الإصلاح.. وليت الجهات
الرسمية الموثوقة تعلن للناس ما لديها من حجم ثروات ما يسمى بالرأسمالية المصرية،
وما لديها عن مخازي سلوكياتهم في الاحتكار والتهريب والتهرب.. لأنه إذا كانت
الشفافية مطلوبة من الحكم وينفذها الرئيس في كل لحظة فالشفافية مطلوبة أيضا فيما
يتعلق بحقوق الوطن المهدرة بيد وإرادة بعض من يحملون جنسيته.
إنها ما يسمى بالرأسمالية، لأنها لا تمارس أية
ممارسات مماثلة لرأسماليات العالم التي تدرك حتمية التوازن الاجتماعي وحتمية
المساهمة في تحمل الأعباء بنسب تتناسب طرديا مع حجم الثروة، وحتمية بناء صروح
للحضارة والثقافة من حر مال أصحاب الأموال.
نشرت في جريدة المصور،
عدد رقم 4806 بتاريخ 16 نوفمبر
2016.
No comments:
Post a Comment