Wednesday, 9 November 2016

في مسألة الدواء.. والربح




تلقيت عشرات التعقيبات المكتوبة والتعليقات الشفهية على ما كتبته الأسبوع الفائت حول الصيدلي.. القاتل عمدًا، وذكرت تفاصيل تتعلق بواقعة ضبط أدوية لحرمان السوق منها، وعلى النحو الذي جاء في المقال.. وتوزعت التعقيبات والتعليقات بين من عبّروا عن فكر مستنير ومواقف وطنية لمواجهة مسألة الاحتكار والتهريب وخنق الناس وترويعهم بتعطيش الأسواق وإخفاء السلع، حتى لو كانت دواء، وبين من اقتصرت اهتماماتهم على الشخص الذي تحدثت عن وظائفه ولم أذكر اسمه، وعلى الشركة التي ارتبط بها الاتهام، وكانت القضية بالنسبة لهؤلاء هي اتهام شخص بريء واختلاق وقائع لم تحدث، ثم حفز الكاتب على أن يتحرى الدقة في المعلومة قبل أن يكتب.. ولن أتحدث عن النوع الثالث الذي أرغى وأزبد وهدد وتوعد، وهو مافيا الدواء التي تقول للأرض "انهدي ما عليك قدي".

بداية فإنني استقيت المعلومات من بيان وزارة الصحة، ثم مما نشر في صحف ومواقع صحفية، ذكر بعضها اسم الشخص والشركة اللذين ترفعت عن ذكرهما، وفوق ذلك جاءتني تفصيلات من مصادر شفهية من المنتسبين لقطاع الدواء وممن أثق فيهم، لأنهم لا مصلحة لهم في الاختلاق، وهم ممن يعرفون الشخص وتعاملوا معه! يعني ثلاث جهات متنوعة ومتعددة استقيت منها المعلومة، وبعدما نشر المقال بعدة أيام أصدرت شركة توزيع الدواء التي وجهت لها أصابع الاتهام بيانًا يبدأ بالنص القرآني "إن جاءكم فاسق..."، ثم فندت ما جاء في بيان الصحة من وقائع، وتلقيت مكالمات هاتفية من أصدقاء في قطاع صناعة وتوزيع الدواء يؤكدون فيها عدم دقة بيان الوزارة، ومن ثم فالمقال لم يكن دقيقًا أيضًا، بل إن البعض طالبني بأن أمتلك شجاعة التصحيح والاعتراف بالخطأ حتى يعطيني المعلومات الصحيحة!

بعد البداية أقرر أنني متمسك بضرورة بل وحتمية مواجهة "المافيا" أو تكتلات وشبكات الربح الفاحش والاحتكار والتهريب في أي مجال من المجالات، أي الدواء وغير الدواء، وأن من يسكت عن ذلك فهو ألعن من الشيطان الأخرس، وأقرر أنه من المحتم أيضًا فتح ملف الدواء في مصر صناعة وتوزيعًا وبيعًا.. ومواد خام وأدوات إنتاج، ووضع الصناعة ذاتها بعد الذي حدث لمصانع القطاع العام وما جرى من تغلغل ملكية غير المصريين ثم الأرباح، وهي قصة أخرى! ثم أضيف إنني انتظرت حتى ظهر الاثنين، الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور اتصالاً من صديقي الذي ناشدني أن أكون شجاعًا يعترف بالخطأ، ليعطيني المعلومات التفصيلية التي وعدني بها مساء الأحد ولم يتصل، وعليه فإنه إذا كانت المعلومات في بيان الصحة وفي الصحف والمواقع والمصادر الأخرى غير صحيحة فإن الأمر يقتضي تصحيحًا من الوزارة ومن بقية المصادر، وتصحيحًا مني أقول فيه إن ما تلقيته من معلومات مغايرة هو جمل خبرية شفهية سمعتها من ثلاثة أفاضل هم: الدكتور السيد البدوي أحد أكبر صناع الدواء، ورئيس حزب الوفد، ثم الدكتور محمد عبد الجواد نقيب الصيادلة السابق، الذي أدلى بحوار تفصيلي لإحدى الصحف الخاصة يفند فيه ما جاء ببيان الوزارة، والدكتور عوض جبر أحد المهمين في الصناعة والتوزيع، وثلاثتهم أكدوا عدم صحة بيان الوزارة جملة وتفصيلاً، لذلك فإن الوزارة مطالبة بأن تحدد موقفها إذا كانت هي ذلك "الفاسق" الذي جاء بالنبأ وكان علينا التبين!

لقد سبق في حالات أخرى أن قدّم كاتب هذه السطور اعتذاره علنًا، وفي بعض مقالاته، لمن تأكد وتيقن من عدم دقة الانتقاد الذي وجهه إليهم، سواء كانوا أشخاصًا طبيعيين أو اعتباريين.

وأنتقل بعد ذلك التوضيح إلى بيت القصيد، وهو ليس بعيدًا عن قضية الدواء، وأعني به مدى وجود قواسم مشتركة بين الربح الحرام وبين الربح الفاحش، لأنه تبين أن كل ظاهرة مجتمعية يلزمها غطاء أخلاقي يبررها ويسوغ منطقها، بل وأحيانًا يشرع لها ويرتقي بها إلى مستوى أنها من النواميس الإلهية الكونية التي لا مناص منها، ومخالفتها تعني دخول المخالف دائرة الاعتراض على سنة الله في خلقه وعلى الإرادة الإلهية، وعلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها إلى آخره!

ورغم أن النموذج الرأسمالي الحديث والمعاصر لم يكن اختراعًا من الذين يتخذون من الدين الإسلامي مرجعية ولا حتى من الدين المسيحي، لأنه تبلور وتعاظم بعد أن تم فصل الدين عن الدولة وانتهى نفوذ الكنيسة، إلا أن الرأسماليين في مصر والمنطقة كثيرًا ما يلجأ بعضهم إلى معيار الحلال والحرام وحده عند مناقشة مسألة الربح، ومن قبله مسألة التملك والاستحواذ والسيطرة على المجالات الاقتصادية.. ولا تراهم ينتبهون أبدًا إلى أن الرأسمالية الحديثة والمعاصرة في بلادها الأصلية جاءت على قاعدة من العلمانية الصرفة، ووفق قواعد دستورية وقانونية لا تنفصل عن الجوانب الفلسفية والثقافية وأيضًا الاجتماعية القائمة في المجتمع، وبالتالي امتلكت الرأسمالية هناك القدرة على التجدد المستمر وعلى التكيف مع المتغيرات، ولم تفقد توازنها ضمن احتفاظ المجتمع ذاته بتوازنه.

إن لدينا في مصر من يعتمد منطق "الحتمية الإلهية" في مسألة التملك وتكوين الثروات، ويعتمد قاعدة "أحل الله البيع وحرّم الربا" في مسألة الربح، ويمضي بها إلى أن "كله حلال" مهما فحش وتجاوز المعايير المتعارف عليها في مجتمعات تعرف حدودًا لكل شيء وتضع الضوابط الصارمة التي ترسخ الدور الاجتماعي لرأس المال.

وكما لا يلتفتون إلى علمانية الرأسمالية هناك في مواطنها الأصلية، فإنهم أيضًا لا يلتفتون إلى الجانب الآخر من "الحتمية الإلهية"، وقاعدة البيع والربا، وهو جانب الالتزام الجاد، بل والصارم بعدم الإضرار بالآخر في المجتمع وعدم المبالغة في الترف، لأنه السبيل الأبرز للهلاك "إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها"، والفسق له معانٍ متعددة منها خرق الناموس الإلهي بالعدل والبر والإحسان.. لأن إبليس كان أول من فسق عن أمر ربه.. وأمر ربنا هو "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى" صدق الله العظيم.

وبذلك ولذلك وعلى ذلك فمن الممكن ألا تكون هناك جريمة أو مخالفة قانونية في مجال الدواء، ولكنها في الوقت نفسه خروج على الناموس الإلهي بالعدل والإحسان والله أعلم.
                                         

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 9 نوفمبر 2016.

No comments:

Post a Comment