الأستاذ الدكتور محمد رؤوف حامد، أستاذ الرقابة والبحوث الدوائية..
عالم خبير.. هادئ، يكره الأضواء والميول الاستعراضية.. مصري أصيل يقبض على جمر
وطنيته مهما كان الثمن.. مثقف يعرف في تخصصه كل ما يشمله هذا التخصص، ويعرف معظم
الحقائق التي تتصل بالحياة في هذا الوطن.
لقد كتبت عبر مقالين في الأسبوعين الفائتين عن مسألة الدواء في
مصر، ووعدت ألا أترك القضية لأنها تتصل بحياة الشعب المصري ووجوده العضوي ككائن
حي، ثم بوجوده العلمي والمعرفي والتقني والاقتصادي، حيث صناعة الدواء علم ومعرفة
وتطبيقات علمية وجوانب اقتصادية شديدة الأهمية، ويبدو أن الوجدان الوطني تأتي عليه
أوقات تراه فيها معنيًا عناية جماعية ومتخصصة بقضية ما، وأحد الشواهد على ذلك هو
العدد 62 من الدورية الفصلية "أحوال مصرية"، التي تصدر عن مركز الأهرام
للدراسات السياسية والاستراتيجية، وهو عدد خريف 2016، ويرأس تحريرها الصديق الخبير
المحترم الدكتور أيمن السيد عبد الوهاب، الذي عرفته باحثًا جادًا وموهوبًا منذ
سنوات عديدة.
ويحمل العدد الذي أتحدث عنه عنوانًا هو "الصحة والرؤية
المستقبلية"، وفيه ملفات تضم "نحو سياسة للاستنهاض الدوائي
الوطني"، و"التأمين الصحي.. نحو قانون جديد"، و"الحالة الصحية
للمرأة والطفل والشباب"، ثم "التحديات الصحية وثنائية الأمراض المتوطنة
ومصادر التلوث"، وأخيرًا "الخريطة الصحية في أرقام.. ملحق إحصائي"!
وفي الملف الأول توقفت متمعنًا لأقرأ مرة ومرتين الدراسة التي
كتبها الأستاذ الدكتور محمد رؤوف حامد، الذي بدأت المقال بتعريف مختصر له، قد لا
يوفيه حقه كعالم وكمثقف، ويهمني أن أعرض لقارئ "المصري اليوم" بعضًا مما
جاء في دراسة الأستاذ الدكتور حامد حول الاستنهاض الدوائي الوطني، وقد بدأها
بمقدمة حول مكانة مصر الريادية في مجال الدواء منذ قاد طلعت باشا حرب ومعه بعض رجالات
الصيدلة مثل "د. رياض زين الدين" هذه الريادة، وذلك بتأسيس شركة مصر
للمستحضرات الطبية، وتواصل الازدهار إلى حقبة الأربعينيات، حيث تم اكتشاف ثلاث
مواد دوائية علاجية جديدة تمامًا هي "الأمويدين- الخليين- الحلفا
بارول"، ثم وعلى مدى الستينيات من القرن العشرين تطورت الأوضاع الدوائية في
مصر أكثر وأكثر، عبر إنجاز المزيد من الأنشطة المتقدمة، وذلك مثل إنشاء شركة
لصناعة المواد الدوائية الخام، ومثل إقامة أول كيان بحثي رقابي في شؤون الدواء على
مستوى الدول النامية هو مركز الأبحاث والرقابة الدوائية.. وبدت مصر بلدًا واعدًا
في شئون الدواء، وتعاظمت التوقعات أن تكون مصر نمرًا دوائيًا قويًا، سواء في كشف
أسرار تصنيع المواد الخام، أو في تطوير المستحضرات الصيدلية، أو في الضلوع في
استحداث تقانات دوائية جديدة.. وبعد ذلك يرصد الدكتور حامد كيف حدث الانهيار، وكيف
تأخرت مصر وتقدم غيرها من الأشقاء العرب لدرجة أن الصادرات الدوائية للأردن الشقيق
ستتعدى أربعة أضعاف صادرات الدواء المصري!
إنني لست من الذين يفضلون دوام البكاء على أطلال عظمة وإنجازات
وطننا، ولا من الذين يعكفون على اصطياد السلبيات والتركيز عليها، وبقدر ما أستطيع
أحاول البحث عن حلول.. وهنا أنتقل إلى الجزء الأخير من دراسة الأستاذ الدكتور محمد
رؤوف حامد، وهو جزء يتصل مباشرة بالبدائل التي يمكن أن نطرحها للاستنهاض الدوائي
في مصر مع السعي- وهذا من عندي- لتقليم أظافر مافيا الدواء وصدها عن مزيد من
الأرباح الفاحشة.
ففي البند رابعًا يعالج الكاتب العالم مسألة الحاجة إلى إعادة
هندسة مستقبليات الشأن الدوائي المصري، مبتدئًا بملاحظتين أساسيتين، الأولى هي أن
أوضاع صناعات وبحوث الدواء في مصر تخضع منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي إلى هيمنة
التوجهات والعلاقات المحافظة التي لا يمكن في ظلها حدوث أي من القفزات على غرار ما
جرى في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الفائت، أو تلك التي تميزت في ستينياته..
والملاحظة الثانية تتمثل في وجود قدر من التراخي المتزايد من جانب الحكومات-
وأيضًا منذ منتصف السبعينيات- بخصوص وصول الدواء إلى مستحقيه ووجود تباين كبير
بشأن متوسط نصيب الأفراد من الأدوية في المحافظات المختلفة، وهو تباين يصل إلى حد
أربعة أضعاف.
بعدها يتحدث العالم الجليل عن التغييرات بشأن السياسة الدوائية
المتعلقة بإتاحة الدواء، وأيضًا التغييرات الخاصة بالصناعة الدوائية، ثم ينتقل
للبند الخامس الذي خصصه للإجابة عن سؤال مهم هو: المجلس الأعلى للدواء ضرورة
ملحة.. لماذا؟!
وسأحاول فيما تبقى من مساحة محدودة اقتباس بعض النقاط، ومنها وجود
اعتبارات أساسية ينبغي أن تؤخذ في الحسبان بشأن وضع وتنفيذ ومتابعة السياسة
الدوائية، مثل: التطبيق السليم للمفاهيم الأساسية كقائمة الأدوية الأساسية-
الأسماء العلمية أو الاصطلاحية للأدوية- مبادئ الاستخدام الرشيد للأدوية.. ثم
الاعتماد على دراسات علمية بشأن المؤشرات التي تقيس الإمكانات المعيشية للأفراد،
وكذلك بشأن استخدام الأدوية في المحافظات المختلفة، وأيضًا أثر التباين في
المستويات المعيشية على استخدامها، وبعدها يأتي الاجتهاد في تحكم أمثل في عدد
الأدوية من منظور تحسين الرشادة في وصفها واستخدامها.. وتوسيع دائرة إسهام أصحاب
التخصصات المختلفة ذات الصلة في وضع السياسة الدوائية ومناقشتها.. ثم إخضاع
السياسة الدوائية للتقييم الدوري اعتمادًا على دراسات علمية وورش عمل، إلى جانب
وضع الخطط والبرامج التي تتيح حسن إدارة المشكلات التي يمكن أن تتعرض لها جوانب
السياسة الدوائية مثل مشكلات نقص الأدوية والارتفاعات المفاجئة في أسعارها، وفي
هذا الخصوص يحتاج الأمر إلى التعامل المنظومي مع المشكلات، بحيث يمكن توقعها
وأيضًا يمكن استيعاب مفاهيم وعلاقات التغذية المرتدة Feed backs في الفهم والتواصل
واكتشاف الممكنات بخصوص التوصل لحلول، وأخيرًا البحث في تعظيم التكامل بين ما يمكن
أن يطلق عليه سياسات الرعاية الصحية من ناحية، والسياسات الدوائية من ناحية أخرى،
خاصة أن مهام السياسات الدوائية في أساسها ترتبط بتوفير الرعاية الصحية المناسبة.
وفي الأسبوع المقبل أستأذن القارئ أن أقدم له الإجابة عن سؤال:
لماذا المجلس الأعلى للدواء ضرورة ملحة من وجهة نظر علمية وعملية للدكتور محمد
رؤوف حامد.
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 16 نوفمبر 2016.
No comments:
Post a Comment