أربعون عامًا بتمامها وليس بكمالها، لأن الأمر
لم يكتمل بعد، مرت على ما جرى في 18 و199 يناير 1977.. وما جرى وصفه السادات
بـ"انتفاضة الحرامية"، ووصفه الذين يضعون أنفسهم فوق الظواهر، أي خبراء
الاستراتيجية ومفتشي عموم الفكر والسياسة في المحروسة بـ"أحداث يناير"،
ووصفه الذين لديهم وسوسة التدقيق في استخدام المصطلحات وحتمية التمييز بين
الانتفاض والثوران والهبوب وهو ما جاءت منه "الانتفاضة"
و"الثورة" و"الهبّة".. وصفوه بأنه "هبّة – باء مشددة –
الجماهير" أو بأقصى وأفضل تقدير "انتفاضة الخبز".. ثم كان أن وصفه
الذين شاركوا فيه ومعهم كل المهمومين بقضايا وهموم الوطن "ثورة يناير"،
لأن الثورة عندهم فعل مستمر متعدد الحلقات.. كل حلقة مرتبطة بما قبلها وبما
بعدها.. وهذا هو معنى الصيرورة عندهم!
وهي حلقات يعود بها البعض إلى الحلقة التأسيسية
الأولى ممثلة في ثورتي القاهرة الأولى 200 أكتوبر 1798، والثانية 20 مارس 1800 ضد
الحملة الفرنسية، ثم الحلقة الثانية، وهي ثورة 1805 ضد الحكم العثماني وطرد الوالي
واختيار وتنصيب والٍ آخر هو محمد علي إلى الحلقة الثالثة وهي 1881 ضد الاستبداد
والظلم الاجتماعي من خلفاء محمد علي إلى 1919 الحلقة الأكبر والأعظم من أجل
الاستقلال والدستور، وبعدها 1952 حيث انتهى حكم الأسرة العلوية وبدأت مرحلة
جديدة.. وهلم جرا إلى أن نصل إلى يناير 1977، ومن بعده حلقات أخرى متصلة ببعضها
كان آخرها حلقة 30 يونيو!
كنت مشاركًا قبل اندلاع التحركات الجماهيرية
الواسعة في الحراك السياسي والفكري الواسع الذي سبق حرب 1973، وأعقبها بعدما سرق
عائد النصر من أيدي من صنعوه من أبناء فئات الشعب المصري ليلهفه ويبتلعه حفنة
محدودة من المقاولين والسماسرة ووكلاء الشركات الأجنبية وكبار البيروقراطية، ثم
شاركت في أحداث يومي 18 و19 يناير وقبض عليّ يوم 28 يناير 1977 إذ ظللت مختفيًا في
شقة صغيرة بقصر العيني دبرها لي الدكتور صلاح دسوقي، وكانت زوجتي المناضلة
الدكتورة فاطمة صالح حاملًا في الشهر الأخير بابنتنا "مريم"، التي ولدت
يوم 2 فبراير 1977 وهو تاريخ صدور قانون الوحدة الوطنية الذي أصدره السادات بهدف
ضرب وحصار أية تحركات شعبية من أي نوع وأية درجة.. ولا أدري أين ذهب هذا القانون
وهل قبر مع صاحبه أم مازال في ترسانة القوانين المماثلة.
ورغم الأربعين سنة، إلا أن المشاهد والأحداث
تزداد وضوحًا ورسوخًا في ذهني وذاكرتي وكأني أعيشها حية بكامل تفاصيلها.. الندوات
والمؤتمرات والاجتماعات واللقاءات ومحاولات إقامة تنظيم يجمع بين ميزات السرية
ومميزات العلنية، أسميناه آنذاك "لجان العمل الناصرية"، وما جرى في
المنصورة يوم 18 يناير وفي القاهرة يوم 19 يناير.. ثم رحلة الاختفاء وبعدها تفاصيل
يوم المطاردة الكبرى من مباحث أمن الدولة للعبد لله فيما كنت فعليًا في طريقي
لتسليم نفسي في مقر أمن الدولة بلاظوغلي.. ثم ما جرى من لحظة دخولي مقر أمن الدولة
في لاظوغلي إلى ذهابي لنيابة أمن الدولة في شارع زكي بوسط القاهرة، وبعدها شهور
الحبس الاحتياطي في سجون الاستئناف وأبو زعبل، والإفراج والوقوف عن العمل والنوم
في الحدائق العامة وتسول وجبة الطعام وأجرة المواصلات في بعض الأحيان!
تفاصيل كتبت عنها من قبل متطرفة وقد آن أوان
جمعها في كتاب، وأسألكم الدعاء أن أشفى من "فوبيا" الاقتراب من كتابة
كتب حتى أستطيع أن أقدم على تلك الخطوة..
المقام لا يتسع للحديث عن الخبرة الذاتية وإنما
الأولوية لتحية هيئة المحكمة التي أصدرت حكمًا بالبراءة وعلى رأسها الراحل الكريم
المغفور له المستشار حكيم منير صليب ومعه المستشاران الجليلان علي عبد الحكيم
عمارة وأحمد محمد بكار.. وهنا دعوني أقتبس مجددًا بعض ما جاء في ديباجة حكم محكمة
أمن الدولة العليا برئاسة المستشار حكيم صليب:
"المحكمة
وهي تتصدى لتلك الأحداث بالبحث والاستقصاء لعلها إن تستكشف عللها وحقيقة أمرها
لابد أن تذكر ابتداء إن هناك معاناة اقتصادية كانت تأخذ بخناق الأمة المصرية في
ذلك الحين، وكانت هذه المعاناة تمتد لتشمل مجمل نواحي الحياة والضروريات الأساسية
للإنسان المصري.. فقد كان المصريون يلاقون العنت وهم يحاولون الحصول على طعامهم
وشرابهم، ويجابهون الصعاب وهم يواجهون صعودًا مستمرًا في الأسعار مع ثبات مقدار الدخول،
ثم إن المعاناة كانت تختلط بحياتهم اليومية وتمتزج بها امتزاجًا، فهم مرهقون
مكددون في تنقلهم من مكان إلى آخر، بسبب أزمة وسائل النقل وهم يقاسون كل يوم وكل
ساعة وكل لحظة من نقص في الخدمات وتعثر فيها.
وفوق ذلك كان أن استحكمت أزمة الإسكان وتطرق
اليأس إلى قلوب الناس والشباب منهم، خاصة من الحصول على مسكن، وهو مطلب أساسي تقوم
عليه حياتهم وتنعقد آمالهم في بناء أسرة ومستقبل.
وسط هذه المعاناة كان يطرق أسماع المصريين أقوال
المسؤولين والسياسيين من رجال الحكومة في ذلك الوقت تبشرهم بإقبال الرخاء، وتعرض
عليهم الحلول الجذرية التي سوف تنهي أزماتهم، وتزين لهم الحياة الرغدة الميسرة
المقبلة عليهم.
وبينما أولاد هذا الشعب غارقون في بحار الأمل
التي تبثها فيهم أجهزة الإعلام صباح مساء، إذ بهم وعلى حين غرة يفاجأون بقرارات
تصدرها الحكومة ترفع بها أسعار عديد من السلع الأساسية التي تمس حياتهم وأقواتهم
اليومية.. هكذا دون إعداد أو تمهيد.
فأي انفعال زلزل قلوب هؤلاء وأي تناقض رهيب بين
الآمال، وقد بثت في قلوبهم قبل تلك القرارات وبين الإحباط الذي أصابهم به صدورها.
ومن أين لجل هذا الشعب ومعظمهم محدود الدخل أن
يوائموا بين دخول ثابتة وبين أسعار أصيبت بالجنون. وإذ بفجوة هائلة تمزق قلوب
المصريين ونفوسهم بين الآمال المنهارة والواقع المرير، وكان لهذا الانفعال وذلك
التمزق أن يجدا لهما متنفسًا. وإذ بالأعداد الهائلة من هذا الشعب تخرج مندفعة إلى
الطرقات والميادين، وكان هذا الخروج توافقيًا وتلقائيًا محضًا. وإذ بهذه الجموع
تتلاحم هادرة زاحفة معلنة سخطها وغضبها على تلك القرارات التي وأدت الرجاء وحطمت
الآمال.. وقد التهبت انفعالات هذه الجموع وتأجج حماسهم عندما تعرض لهم رجال الأمن
المركزي بعصيهم وبدروعهم وقنابلهم المسيلة للدموع فكان أن اشتعلت الأحداث وسادت
الفوضى ولم يكن من سبيل لكبح الجماح وإعادة الأمن والنظام إلا فرض حظر التجول
ونزول رجال القوات المسلحة إلى الميدان وأمكن حينئذ وبعد جهد خارق استعادة الأمن
والنظام.
والذي لا شك فيه وتؤمن به المحكمة وتطمئن إليه
ضميرها ووجدانها أن تلك الأحداث الجسام التي وقعت يومي 18 و19 يناير 1977 كان
سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار، فهي متصلة بتلك
القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب.
ولا يمكن في مجال العقل والمنطق أن ترد تلك
الأحداث إلى سبب آخر غير تلك القرارات فلقد أصدرت على حين غرة وعلى غير توقع من
أحد، وفوجئ بها الناس جميعًا بمن فيهم رجال الأمن فكيف يمكن في حكم العقل أن
يستطيع أحد أن يتنبأ بها ثم يضع خطة لاستغلالها ثم ينزل إلى الشارع للناس محرضًا
ومهيجًا، إن هذا الفرض غير مقبول ولا معقول ذلك أنه لم يقع أي فاصل زمني بين إعلان
القرارات وخروج الناس".
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 18 يناير 2017.
No comments:
Post a Comment