Wednesday, 11 January 2017

جميل شفيق وذكريات "الترماي"




أربعة براويز بسيطة معلقة على جدار حجرة مكتبي المواجه للباب، والبراويز تضم أربعة وجوه مرسومة بخطوط سريعة، وعلى بعضها عبارات ساخرة مضحكة.. وكلما كنت أنظر إليها– وكثيرًا ما أفعل– أسأل نفسي صامتًا: "يا ترى على من سيأتي الدور؟!"

الصور معلقة على شكل خطين متقاطعين "صليب"، ويطل من يسار الرائي وجه رؤوف عياد.. وعلى يمينه وجه عبدالهادي وشاحي.. وفي الأعلى وجه جميل شفيق.. وتحته وجه العبد لله.. والصور إسكتشات سريعة رسمت عام 1991 ونحن جلوس في الحانة التي تحتل الدور الأخير من فندق "أوديون"!

رسم رؤوف عياد نفسه وكتب عبارة طويلة بخطه يقول في مبتدئها "بمناسبة افتتاح نهر الكونياك العظيم..."، متهكمًا على القذافي ونهره العظيم.. ورسم رؤوف أيضًا جميل شفيق وكتب إهداء بدايته "إلى الرفيق المهيب الركن جميل شفيق زعيم حزب البعث الأوديوني..."، ثم رسم جميل شفيق وجه الوشاحي.. ووجهي وفيه اللازمة المعروفة وهي الحاجب المرفوع والعين شبه المفتوحة.. وبدون تعليقات لوشاحي ولي!

ذهب رؤوف.. ومن بعده وشاحي.. ثم رحل جميل منذ أيام.. وبقيت مؤقتًا لأكف عن السؤال: "يا ترى الدور على من؟!".

وللأمانة فقد التفتُّ للبراويز قبل أن أنتقل لهذه الفقرة من هذا المقال، وكأني أستمد ما ينعش الذاكرة التي ثبت أنها بالنسبة للأحداث الماضية البعيدة لا تحتاج لإنعاش، على عكس الأحداث القريبة جدًا.

كان الثلاثة.. رؤوف وجميل ووشاحي من الفنانين التشكيليين.. رؤوف بالموهبة دون مؤهل جامعي في هذا التخصص، أما جميل وعبد الهادي فهما من خريجي الفنون.. وقد كان جميل بلدياتي من طنطا، وحصل على الثانوية العامة من المدرسة الأحمدية الثانوية التي تخرجت فيها.. وكان الفنان أحمد حجازي- رحمه الله- هو الآخر من طلابها.. وكذلك السيد عمرو موسى.. والدكتور عمر السباخي، أطال الله عمريهما!

حزنت على جميل، إذ حادثته قبل رحيله بأيام قليلة لأطمئن عليه، وكلما تهاتفنا كرت الذكريات، ومنها ما ضحكنا عليه في مكالمتنا الأخيرة، إذ تذكرنا حكاية الوشاحي والبطاطا والبطاطس.. وأصلها أن النحات العظيم عبدالهادي الوشاحي وهو طالب كان يقيم في شقة واحدة مع زملائه، ومنهم جودة خليفة، وكان وشاحي يستقل بحجرة وحده يغلقها كلما كان خارج الشقة، ولكنه يخزن في بلكونتها المشتركة مع الآخرين كراكيب تخصه، ومنها صندوق يضع فيه ما يصادفه من ثمار البطاطا والبطاطس التي لها شكل يستهويه كفنان تشكيلي نحات، وذات ليلة جاع القوم من سكان الشقة وضيوفهم، وكانوا جميعًا مفلسين، وإذا بأحد الضيوف الدائمين- وكان هو الراحل البديع سيد خميس- يتذكر حكاية تماثيل وشاحي الراقدة في صندوق البلكونة، وتم السطو على ما في الصندوق ليتم سلقه والتهامه، وما إن حضر وشاحي متأخرًا قليلًا إلا ولمح ثمرة بطاطا مسلوقة ليست غريبة عليه.. وفي صمت قفز إلى البلكونة ليصرخ يا أولاد... "أكلتم التماثيل يا جهلة يا كفرة"!

كان جميل يحب الدندنة، خاصة بعض أغاني عبد الوهاب، ومنها "يا وابور قول لي رايح على فين"، وطوال جلسته وعندما يحمي وطيس الشراب فيدق بأصابعه ويغني، وكان يحب أن يتمسخر أحيانًا على طابع التكرار في بعض الأغاني المصرية، فيصدح بأغنية من عبارة واحدة تتساءل عن مؤخرة القرد لماذا هي حمراء، ويرد على التساؤل بالعبارة نفسها بتبديل مواقع الكلمات، ويظل يرددها لينفجر الجميع في ضحك متصل وكأنهم يتلككون تسول الابتسامة والقهقهة في زمن عز فيه الابتسام!

وكان جميل بارعًا في رسم لوحات بالحبر الشيني، نقط وخطوط دقيقة للغاية وكثيفة تفصح عن ظلال وأضواء في غاية الجمال، وكانت السمكة المكتنزة والحصان المتحدي وسيقان النخيل وجريده، وأيضًا الجاموسة من التيمات المستمرة في لوحاته، وقد شاء حظي الطيب أن أقتني بعض لوحاته التي انبهرت بها، وكان بيني وبينه حوارات طويلة حول تأثره بالكتاب المقدس في عهده الجديد، لدرجة أنني كنت أترجم اللوحة إلى آية إنجيلية، وهو يضحك ويقرر أنني حر فيما أرى وأتذوق.. ثم اتجه جميل إلى "طرح البحر" ليصنع منه قطعًا فنية راقية، إذ طال مكوثه في قرية الصحفيين بالساحل الشمالي، وكان يهوى الصيد، وفيما هو ماضٍ في طريقه يوميًا من مسكنه إلى الشاطئ تصادفه الأخشاب التي يلفظها البحر بكثافة والأحجار والأصداف.. وامتدت موهبة الفنان إلى ما طرحه البحر خارجًا، وأقام عدة معارض يعرض فيها تفانينه البحرية، وفي أحد المعارض ذهبت بصحبة الفنان صاحب أعلى وأجمل ضحكة جودة خليفة - رحمة الله عليه- وكان من المشائين الكبار رغم عمره، إذ كان يتجه على قدميه من مدينة نصر لوسط القاهرة، وفور دخولنا فوجئت بالدكتور يحيى الرخاوي يتجول بين قطع معرض جميل شفيق.. وحدث ما اعتبره جميل تصرفًا همجيًا مني، إذ أعطيت الرخاوي طريحة كلامية مروعة شديدة السرعة وقف إزاءها مذهولًا لا يجري حراكًا ثم انصرفت بصحبة جودة.. وكان السبب صفحة نشرتها إحدى صحف الإمارات ليحيى الرخاوي يقدم فيها تحليلًا نفسيًا لأحد زعماء مصر.

ومن حانة الأوديون انتقلنا إلى حانة أخرى وسط البلد أيضًا، وكان لنا طاولة مكونة من عدة ترابيزات مضمومة على شكل مستطيل طويل بشكل ملحوظ، ولذلك اسماها الراحل سيد خميس "الترماي".. وكأنها ترامواي متعدد العربات.. ويجلس على صدرها رؤوف، ثم نأتي منفردين حتى يلتئم الشمل وتهبط أطباق المش والطماطم والخيار والفلافل والجرجير والترمس والفول النابت والفول السوداني، وتتعدد المجموعات على ترابيزات مجاورة.. صحفيين ومطربين وملحنين وشعراء وقصاصيين وروائيين وممثلين ومخرجين ورسامين ونحاتين وكتاب سيناريو.

وبين حين وآخر كان يأتي أسامة الباز لينصت ويضحك، وكثيرًا ما كان السهر يمتد حتى الضحى!

مئات الحوارات حول آلاف القضايا والأفكار والممارسات وعشرات الاشتباكات الساخنة الكلامية التي تطور قليل منها إلى مشاجرات وصدام بدني.. وكل فنون القفشات والتريقة والتنكيت والتبكيت.. والبكاء.. ثم بدأ بعض المتطفلين الذين كانوا يراقبون "الترماي" من بُعد يقتربون ثم يجلسون، ومنهم صحفي أهراماتي كان لا يلقى استلطافًا من الركاب الأصليين للترماي ولكنه بجسارة يحسد عليها فرض نفسه، ولأنه عاش فترة في الولايات المتحدة مراسلًا لإحدى الصحف المصرية واختلف مع إدارتها وصاحبها الإعلامي المشهور وابن سيناريست مشهور كان صديقًا لكل المجموعة، ورفع قضية على الصحيفة ونال حكمًا من المحاكم الأمريكية بتجميد أموالها فدفعت له "لكشة" دولارات ضخمة، وكان يبدأ حديثه دومًا بأنه عندما كان في "الاستيتس" باعتبارها "يونايتد ستاتس" أو بقوله: عندنا في "الاستاتس"، وإذا بالراحل الساخر البديع سيد خميس يسميه فلان "أبو ستيتس" على غرار عائلة أبو ستيت الصعيدية المشهورة.. ثم اختفى ذلك الصحفي في ظروف غامضة أيام مبارك، وبقي للآن مختفيًا وبقيت الظروف غامضة رغم زوال حكم مبارك وحكمين بعده!

لن أنظر للبراويز وأسال ثانية.. ولكني سأنتظر!
                               

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 11 يناير 2017.

No comments:

Post a Comment