مثل المريض الذي يلجأ للطبيب مشتكيا من ألم بسيط
في أحد أعضاء جسده، فإذا بالمعالج يطلب أشعة وتحاليل ليكشف للحالة عن أن بها أكثر
من مرض عضال في غير عضو من أعضاء الجسد.. ويصبح الحال كما يقال عن هذا المنوال:
"ذهب لا به ولا عليه، فإذا بالمصائب تتحادف عليه!"، هذا ما حدث في سياق
ما اهتمت به هذه المساحة خلال الأسابيع الفائتة، حول المسألة الدوائية في مصر، حيث
بدأنا بواقعة رأى البعض أنها مختلقة مكذوبة عن اتهام صيدلي ما وشركة بعينها
باختفاء أصناف مهمة من الأدوية للإضرار بالناس وبالاقتصاد، فإذا بالموضوع يتسع
ويتسع حتى تعددت المقالات وتكاثرت التعليقات والتعقيبات وانعقدت الاجتماعات وصدرت
التوجيهات.. وفي هذا كله أتوقف عند ما يتصل بما كتبته الأسبوع الفائت، وفيه اقتبست
جزءا من رسالة الصيدلي رجائي قوسة، الذي تولى مواقع نقابية مهمة ويتولى مواقع مهمة
في مجال الصيدليات الخاصة، وما أن نشر المقال حتى تدفقت التعقيبات على صفحة
التواصل من مختلف الآراء، وأتوقف عند تعقيبين أراهما مع ما جاء في تلك الرسالة
ضوءًا كاشفا عن محنة حقيقية على أكثر من مستوى في عالم الطب والصيدلة تعليما
وممارسةَ!
التعقيب الأول من الأستاذ الدكتور جمال مصطفى،
أستاذ الجراحة العامة ذي المكانة المرموقة في تخصصه محليا وعالميا، وفي مجال
الثقافة والعمل العام عبر "صالون الجراح الثقافي" الذي يتصدى لأهم وأخطر
القضايا التي تواجه مجتمعنا، والتعقيب الثاني من الأستاذ الدكتور شارل بشرى مجلي،
أستاذ طب القلب المرموق في تخصصه أيضا وله باع لا يبارى في عشق اللغة العربية
وآدابها وعشق الموسيقى والغناء وخاصة الرحبانية وفيروز ويحوز قدرة متميزة في تحليل
الألحان والكلمات!، وعلى هذا أعتقد أن اهتمامهما بالقضية وبما كتبت ليس لرباط
يجمعنا بقدر ما هو اتساق منهما مع ذاتيهما، حيث تأتي لحظة فارقة يصبح فيها الذاتي
قمة في الموضوعية.
كتب الدكتور جمال: ".. حدث ما توقعته.. أن
يتم التحامل على كل الأطباء وتعميم سوء الظن بهم.. ومن الأطباء من هم أرحم بالمريض
أكثر من أهل بيته.. أما مسألة كتابة الدواء بالاسم العلمي فربما يكون لها عيوب
كثيرة في التطبيق، حيث الأسماء العلمية مركبة ومعقدة وطويلة، لأنها لاتينية في
الأساس ومن يبيع الدواء في الصيدليات الآن ليسوا صيادلة أحيانا بل حاصلون على
دبلومات متوسطة، لذلك فالخطورة هنا كامنة ستظهر عند التطبيق، لكن سيادتكم أصبت كبد
الحقيقة فقضية الدواء أشد وطأة على المريض من قضايا الأرز والسكر والمكرونة، وهناك
نقاط مهمة يجب التوقف عندها منها:
1
– إن الطبيب والصيدلي حديث التخرج يحتاج لسنوات من الممارسة لحفظ الأسماء العلمية.
2
– الأسماء العلمية لبعض الأدوية قد تكون متشابهة جدا وقد تختلف في حرف واحد وينشأ
عن ذلك دواءان يعالجان مرضين، أحدهما في القلب والآخر لعلاج المفاصل مثلا، وفي هذا
خطورة قد تصل لحد الموت.
3
– الأسماء التجارية بها إيحاءات تفيد كاتب الدواء، ففي الاسم التجاري ما يوحي بإذا
ما كان الدواء قصير المدى أم ممتد المفعول، وفيه أيضا ما يوحي بأن يستخدم لمرضى
الرجال أم النساء، وأيضا ما إذا كان يحتوي على مركبات خطرة كالكورتيزون مثلا أم
لا، وفيه أيضا ما يوحي بالعضو الذي يؤثر عليه الدواء، وبطريقة تعاطي الدواء ناهيك
عن أن الاسم التجاري يكون سهلا وأحيانا له وقع موسيقي ليكون سهل التذكر، خصوصا
للممارسين العامين الذين يشكلون أكثر من 90 بالمائة من ممارسي الطب والصيدلة!..
أما المخضرمون من أمثالي فالخبرة على مدار السنين هي ما يحدد أي دواء نستعمل بغض
النظر عن الشركة المنتجة حتى لو استعملت معنا كل المغريات.. لأن نتيجة العلاج تقع
على الطبيب المعالج ولن تنفعه شركة الدواء أمام الناس وأمام القانون، إذا وقع في
المصيدة أمام محامي التعويضات".
وكتب الدكتور شارل بشرى مجلي: ".. أغلب ما
جاء فيما قاله السيد الصيدلي خاصة موضوع العربات الفارهة يدخل تحت بند الخيال..
وقد يكون هذا واردا لمسؤول تسجيل الدواء أو تسعيره، ولكن أن يكون مكافأة لطبيب كي
يكتب الدواء، فهذا لا مؤاخذة من قبيل الخزعبلات.. وللأسف فإن مقالتك أثارت أحقادا
وتعميمات كعادتنا في مصر والشرق كله.. وبالطبع يوجد هنا في مصر، كما في العالم كله
أطباء يتربحون من تعاملات غير شريفة وسمسرة، كما أن هناك صيادلة يبيعون الأدوية
يعلمون علم اليقين أنها مغشوشة كأحد الأدوية المضادة للجلطات وهو مغشوش ومهرب وأدى
لقتل المئات من الشعب الغلبان، كما أن هناك صيادلة يخفون الدواء ويرفضون بيعه
انتظارا لارتفاع سعره.. إننا لسنا في مجتمع من الملائكة، ولكن هناك من الأطباء
والصيادلة من تشرف بهم إلى يوم القيامة.. أما عن موضوع كتابة الدواء بالاسم العلمي
فهذا موضوع سيخلق مهازل، كما أوضح أستاذنا الدكتور جمال مصطفى، ففضلا عن أن أغلب
الواقفين في الصيدليات غير مؤهلين ومن حملة الدبلومات المتوسطة، إلا أن الحقيقة هي
أن جامعاتنا أصبحت تخرج صيادلة أميين دوائيا لا يعرفون أسماء الأدوية أو استعمالاتها
ويفتون بافتكاسات لها العجب، تعجل بالمريض إلى موضع راحته الأبدية، ثم إننا نعلم
أن الدواء الأصلي مصريا كان أو مستوردا يختلف في فاعليته عن النسخ التي تملأ السوق
مما نسميها Copies
أو مستنسخات مصنعة من مواد خام ذات جودة منخفضة، تختلف بالطبع عن الدواء المصنع بواسطة
شركة غير الشركة الأصلية بعد انتهاء حقوق الملكية والذي يسمى بالدواء المثيل..
ولقد أضحكتني رسالة السيد الصيدلي.. ولكنه ضحك كالبكا".
انتهت تعقيبات الأستاذين الدكتورين، جمال وشارل،
وبهما ألقي الضوء على ما هو أكثر اتساعا من المسألة الدوائية في مصر.. لأنهما في
نظري لم يختلفا على وجود فساد وفاسدين وجهل وجهلة في قطاعي الطب والصيدلة، ولكنهما
ضد التعميم والخلط وإثارة الضغائن، ولم ينكرا انحدار وتردي التعليم الجامعي في
كليات الصيدلة، ولذلك أرتد إلى السؤال الأصل وهو: كيف يكون النهوض بهذا الوطن إذا
ما انشغلنا بالعرض ولم نلتفت للمرض؟! وهل يكون الكي بنار العقوبات المغلظة هو
الحل؟!
لقد فتحت لنا المسألة الدوائية
"خراريج" يعانيها الجسد والوجدان في مصر، وظل ومازال يقاومها حتى امتلأت
بكرات الدم البيضاء الميتة التي صارت صديدا يتدفق في غير مجال، ويكفي خراج
المرتشين الذي فتحته الرقابة الإدارية وفي أماكن لها منزلة التقديس عند الجميع..
واسمحوا لي أن أستأذن في الالتفات إلى مسألة أخرى غير الدواء، وقد أعود إليها إذا
ما اقتضى الأمر.
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 4 يناير 2017.
No comments:
Post a Comment