Thursday, 5 January 2017

مولانا




في زمن مضى وعنه كنا نقول جاهين والأبنودي وغيرهما يكتبون، والطويل والموجي وبليغ وغيرهم يلحنون وأم كلثوم وعبد الحليم وغيرهما يغنون.. وكنا نقول نعمان عاشور وألفريد فرج وميخائيل رومان وغيرهم يكتبون، وطليمات ودياب وحسن عبد السلام وغيرهم يخرجون، ومحمود مرسي وسميحة أيوب والأخوان غيث وغيرهم يمثلون، وكنا نضيف: القائد يحقق الحلم والشعب يعمل ويبني والجيش يحمي ويردع.. والكل في واحد هو الانتماء لمصر والأمة العربية..

أقول "كنا".. وكان فعل ماضٍ ناقص، يبقى الحنين إليه دون أخذ الدرس واقتناص العبرة مرضا يستلزم العلاج!

وأمس الأول الثلاثاء سرحت لحظة، فيما المكان والحضور والزحام لا يبيحون السرحان بحال من الأحوال، وقلت في نفسي ولنفسي هل تأتي لحظة في مدى ما نقول فيها.. كان إبراهيم عيسى يكتب ومحمد العدل ينتج ومجدي أحمد علي يخرج وفلان وفلان يمثلون.. والناس تجد فيما يشاهدون استجابة راقية لما يدور في عقولهم وربما يقض مضاجعهم!!

وقبل أن أستطرد أعترف أنها سطور قد تكون ذاتية إلى حد ما ومنحازة إلى درجة ما.. وعذرا لتكرار الـ"ما.. ما"!

فرغم بُعد المسافة من أقصى شرق العاصمة في القاهرة الجديدة إلى أقصى الغرب – نسبيا – في مدخل الطريق الصحراوي، ورغم شدة البرد، ومخاطر القيادة الليلية للكهول، إلا أن إغراء الرؤية كان أقوى.. رؤية الأصدقاء ومنهم الكاتب والمنتج والمخرج، ورؤية العمل وقد جذبني عنوانه لأنني طالما رددته في طفولتي وصباي وشبابي ورجولتي وكهولتي "مولانا"، لأنني من بيئة "دراويش" يحبون الدقة والفتة ويرددون الأوراد ويتمايلون بالأذكار، ويعشقون مديح النبي العدنان ويتفانون في خدمة رواد موالد آل البيت والأقطاب والأولياء.. وكان لنا "مولانا" شيخنا الذي أخذ الآباء العهد من قبضته وظلوا موفين بالعهد إلى أن ذهبوا إلى البرزخ!.. وهناك اتسعت دائرة الرؤية، إذ كان الأصدقاء والمعارف والزملاء زرافات.. زرافات!

ورغم أن "كنا" الأولى كانت تنصب على الحلم بكلمات جاهين والأبنودي وغيرهما ممن سبق وذكرت.. وأن "كنا" الثانية تنصب على منغصات الحلم بكلمات عيسى وإخراج مجدي، إلا أن المضمون متصل اتصالا وثيقا في نظري، حيث لا تنهض الأمم بأحلامها إلا بعد وربما أثناء نقضها أو هدمها لما هو مجهض لتلك الأحلام!

إنني لست ناقدا يملك أدوات النقد الفني والأدبي التي صارت منذ أمد طويل علما له تقنياته، ولكنني في الوقت نفسه من المهمومين بالحلم وكيف يتحقق ويكتمل بغير إجهاض!.. وعندي – وآسف ثانية للذاتية – فإن الفرق شاسع جدا بين التصدي بالإبداع لمجهضات الأحلام، وبين لغة البيانات مرصوصة العبارات متكررة الإشارات بحيث أنك لو نزعت من السياق الواقعة التي صدر البيان بشأنها ووضعت أية واقعة أخرى لما تغير في الكلام شيء.. ولطالما منذ سنوات عديدة مضت كنت ممن يطلب إليهم تدبيج بيان سياسي شديد الحدة للهجوم على موقف ما أو مسلك بعينه لرئيس الدولة أو للحكومة وخاصة وزارة الداخلية!.. وأعلم علم اليقين وبالتجربة أن كثيرين ممن يتصدرون عملية إصدار البيانات والتوقيع عليها لا يعرفون من فنون الكتابة إلا كتابة أسمائهم!!..

ما علينا، إذ أعود إلى "مولانا" الفيلم السينمائي الذي دعاني صديقي المخرج الفنان مجدي أحمد علي لمشاهدة عرضه الخاص، حيث وجدت اقترانا وثيقا بين الصورة العفية المريحة للعين المثيرة للوجدان وبين الكلمة الكاشفة السهلة المانعة الذاهبة لأقصى عمق الجغرافيا الدينية – إذا صح الوصف – وأوسع مساحة للجغرافيا السياسية في تضفيرة سالكة الفتل بين الخصلات.. خصلة رأس السلطة وكواليس البلاط.. وخصلة ساس المجتمع وحلقات الذكر ومشاهد الترنيمات.. ثم خصلة الواعظ الموظف المتكلس واسع البطن والذمة.. وخصلة ضابط الأمن الموظف محترف خصي العقول وتدمير الإرادات!!.. ولو استطردت لفككت الضفيرة لمزيد من الخصلات.. ولتوقفت أمام كل شعرة في كل خصلة، لأنني انحزت لما شاهدت، فصارت شهادتي مجروحة!

ربما سيجد النقاد المحترفون المالكون لأدوات علم النقد أمورا لم أتطرق إليها.. وقد يقال إن العمل فيه من المباشرة ما يجعله أقرب لخطبة منبرية وعظية.. أو أقرب لدرس في مدرسة أو جامعة.. وقد يلفت الانتباه أخطاء في نص بعض الآيات القرآنية على لسان بعض الممثلين، وأخطاء لغوية في نص بالفصحى.. وقد يرى آخرون أن العمل كله شيطنة مطلقة للتيار السلفي المستند لابن تيمية، وتعليق لكل السلبيات في عنقه، وكأنها مؤامرة محكمة لا ينفذ منها الماء.. ومع ذلك فقد وصلت رسالة العمل إلى عقلي ووجداني.. وتأثرت وانبسطت وصفقت.. رغم أن لديّ معرفة بالمسيحية والإسلام بكل مذاهبهما، ما يكفل أن أزعم أنني لم أتلق إضافة فكرية.. إلا أنني فعلا ارتحت.
                           

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 5 يناير 2017.

No comments:

Post a Comment