من نكد الدنيا على بعض الناس أن تأتيهم فرصة
تحذير قومهم من منابع الخطر فلا يجدون سامعًا ولا مجيبًا، خاصة ممن بيدهم أمر
حماية الأوطان من كل خطر.. والسطور التالية سطرتها ونشرتها منذ أكثر من خمس سنوات،
وهذا نصها دون تصرف:
توجهت إلى كتب أحمد بن تيمية لأطالع الأصل الذي
يرجح أن بعض الفرق التي تعرف نفسها بأنها إسلامية تأخذ منه، وقبل أن أتحدث عما
وجدت وخاصة في مسألة الآخر المسيحي، أروي واقعة حدثت لي في النصف الأول من
الثمانينيات فيما كنت أكتب زاوية يومية بصحيفة الخليج الإماراتية، وأشرف على صفحات
الرأي بها، إذ عرضت كتابًا كتبه فقيه مصري من رجال الأزهر الشريف هو الشيخ سلامة
العزامي يناقش فيه آراء ابن تيمية ويرد عليه في كثير من المسائل الأصولية دينًا
وفقهًا، وعنوان الكتاب هو "البراهين الساطعة في الرد على ابن تيمية الحراني"،
وما أن نشرت ملخص آراء العزامي في ابن تيمية حتى قامت الدنيا ولم تقعد، لأن
الإمارات الشمالية من دولة الإمارات تتمذهب بالمذهب "الوهابي"، الذي
يستند أساسًا في الأصول والفروع إلى ابن تيمية وهو أبرز المنتمين للمذهب الحنبلي،
وجاء إلى مقر الجريدة من يبلغ أصحابها احتجاج علماء المنطقة، وأنهم بصدد رفع دعوى
قضائية لأنهم اعتبروا أن مجرد المساس الانتقادي لآراء وفتاوى ابن تيمية يعد خروجًا
على الدين الصحيح، وكان أن توسط الوسطاء وأفلت منها بأعجوبة، ولا أدري إن كنت
سأفلت هذه المرة أم لا، فاللهم اجعل كلامنا خفيفًا عليهم.
والرجوع إلى كتب ابن تيمية وبقية أئمة المذهب
الحنبلي وامتداداته في البلاد العربية وخارجها، يجعلنا نشك كثيرًا في جدوى ما يقال
وما يبذل من جهد فيما يسمى "تجديد الخطاب الديني"، و"تحديث
المفاهيم الفقهية"، و"أسس الحوار بين أصحاب الديانات الإبراهيمية
الثلاث" إلى آخر ما عرفناه في العقود الأربعة الأخيرة. ذلك أن الذين يستمدون
رؤاهم ومسلكهم من تلك المصادر لا يلتفتون إلى غيرها ولا يجدون فيما تطرحه المذاهب
الأخرى، سواء في صيغها التقليدية التي صاغها مؤسسوها "الأئمة مالك وأبوحنيفة
والشافعي" أو في صيغها التالية التي أضافها الفقهاء المجددون في تلك المذاهب،
فما بالك أن يأخذ هؤلاء الحنابلة التيميون من مصادر أخرى لمحدثين وإن كانوا ثقاة
مجتهدين وأئمة أتقياء لا يرقى إلى إيمانهم واجتهادهم شك، وفي هذا سلسلة من الرجال
تجل عن الحصر!
وفي مقدمة المجلدات الخمسة للفتاوى الكبرى التي
أفتى بها ابن تيمية كتب الشيخ حسنين محمد مخلوف، المفتي الأسبق للديار المصرية،
مقدمة ضافية عرف فيها بابن تيمية، وتكلم عن نشأته ومراحل حياته والخطوط العريضة
لآرائه وآراء المعاصرين له من العلماء فيه.
وحتى لا يذهب الذين يرون في كل تعرض ونقاش لما
يطرحه من يطلق عليهم السلفيون، أو الأصوليون اصطيادًا غير بريء التوجه، فإنني أقرر
أن الأمر كان وأصبح وسيمسي أكبر من عمليات الاصطياد والتراشق، لأنه ثبت بالدليل
اليقيني القاطع، ومن خلال الوقائع اللحظية وليس اليومية التي يعيشها وطننا، أن
السلاح الفتاك الذي يمزقنا ويفتك بوجودنا كله المادي والمعنوي هو السلاح الذي
استخدمه عدونا منذ كان لنا عدو: "فرق تسد".. ويتجلى هذا التفريق على كل
المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والوجدانية وهذا هو أخطر
المستويات، لأن وجدان الأمة هو مكنونها الحضاري والثقافي والعقيدي. ومن هنا تأتي
أهمية العودة لمصادر كل نزوع فكري أو ديني يؤدي إلى تمزيق هذا الوجدان ويمكن العدو
من أن ينفذ ما يريد.
دعونا نقرأ ونتوقف عند بعض ما أفتى به ابن
تيمية، وهو متصل ببعض ما نحن فيه الآن. ففي باب عقد الذمة وأخذ الجزية بالجزء
الرابع من الفتاوى الكبرى "طبعة دار المعرفة ببيروت دون تاريخ نشر"،
يقول ابن تيمية: "والكنائس العتيقة إذا كانت بأرض العنوة فلا يستحقون إبقاءها
ويجوز هدمها مع عدم الضرر علينا، وإذا صارت الكنيسة في مكان قد صار فيه مسجد
للمسلمين يصلى فيه وهو أرض عنوة فإنه يجب هدم الكنيسة التي به، لما روى أبوداود في
سننه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع قبلتان
بأرض"، وفي أثر آخر: "لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب"، ولهذا أقرهم
المسلمون في أول الفتح على ما في أيديهم من كنائس العنوة بأرض مصر والشام وغير
ذلك، فلما كثر المسلمون وبنيت المساجد في تلك الأرض، أخذ المسلمون تلك الكنائس
فأقطعوها وبنوها مساجد وغير ذلك، وتنازع العلماء في كنائس الصلح إذا استهدمت هل
لهم إعادتها على قولين ولو انقرض أهل مصر ولم يبق أحد ممن دخل في العقد المبتدأ
فإن انتقض فكالمفتوح عنوة ويمنعون من ألقاب المسلمين كعز الدين ونحوه ومن حمل
السلاح والعمل به، وتعلم المقاتلة الدفاف والرمي وغيره وركوب الخيل..... ويكره
الدعاء بالبقاء لكل أحد لأنه شيء قد فرغ منه ونص عليه الإمام أحمد في رواية أبي
أصرم، وقال له رجل جمعنا الله وإياك في مستقر رحمته فقال لا تقل هذا".
ثم يقول ابن تيمية: "... وليس لهم إظهار
شيء من شعار دينهم في دار الإسلام لا وقت الاستسقاء ولا عند لقاء الملوك ويمنعون
من المقام في الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة والينبع وفدك وتبوك ونحوها وما دون
المنحنى..." إلى آخره.
وسئل ابن تيمية في الخميس ونحوه من البدع -
"الجزء الثاني من الفتاوى"، فاستفاض في الحديث عن أعياد المسيحيين وأفرد
لهذه الفتوى أو المسألة الصفحات من 95 إلى 101، وساق آراء أظنها غاية في التشدد
والحث على كراهية الآخر وتجنبه، ولأن المساحة لا تتسع فقد أقتصر على نقل فقرة
واحدة من صفحة 100: "ونص الإمام أحمد على أنه لا يجوز شهود أعياد اليهود
والنصارى، واحتج بقول الله تعالى: "والذين لا يشهدون الزور" قال
الشعانين وأعيادهم وقال عبدالملك بن حبيب من أصحاب مالك في كلام له قال: "فلا
يعاونون على شيء من عيدهم لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم"!!
ذلك غيض من فيض ما أتى به أحمد بن تيمية في
فتاواه، ولا أريد أن أتوقف ومعي القارئ حول العديد من المسائل التي أفتى بها
الرجل، ومنها تفصيلات حول التعامل مع "المردان" جمع أمرد وهو الصبي صغير
العمر جميل الوجه، لأنني لو توقفت ودعوت إلى التأمل والتفكير في الظروف الفكرية
الاجتماعية والسياسية التي أفتى فيها ابن تيمية فتاواه لقيل على الفور: ها هم
يصطادون ما يريدون به إظهار نقائص أئمة المسلمين ومن ثم ها هم يسيئون إلى الإسلام!
الأمر إذن ليس أمر خطاب ديني يتم تجديده
وتحديثه، وليس أمر اجتماعات تضم الجانبين للوصول إلى تفاهم مشترك، وإنما الأمر أمر
أصول فكر ديني كان لها ظروفها، ولها أدوات اجتهاد تختلف عن عصرنا ولا يجوز العمل
بها فيه، وعندئذ يكون السؤال: هل يمكن لفقهائنا الثقاة المجتهدين المعاصرين أن
يناقشوا بوضوح وصراحة هذا الذي ورد في كتب ابن تيمية ومن غزل على منواله، وأن
يقولوا كلمتهم بما لا يحتمل لبسًا وعلى قاعدة "هم رجال ونحن رجال"؟!
ولي وقفة أخرى مع المصادر، ومع الدور الإسرائيلي
الذي أظنه فاعلاً للغاية في محنتنا الراهنة.
نشرت في جريدة المصري
اليوم بتاريخ 1 مارس 2017.
No comments:
Post a Comment