من حق كل مواطن أن يبدي رأيه فيما وفيمن شاء
وقتما يشاء، فإذا أخطأ بسب أو قذف أو كذب فللمتضرر سبل يمضي فيها لمعاقبة المخطئ،
فإذا صار ذلك المواطن صاحب مسؤولية معنوية، كأن يكون مفكرا ومثقفا أو كاتبا أو
أستاذا لأجيال أو قدوة وقيادة لجماعة ما، ضاق الحق قليلا وتعين عليه أن يتريث قبل
أن يبدي رأيا أو يفتي في مسألة، أما إذا انتقل ذلك المواطن للموقع القيادي المسؤول
في الدولة، كأن يكون رئيسا أو وزيرا أو نائبا، فإن قيودا أخرى تضاف ليصبح ميزان
كلامه ورأيه في جده وهزله أدق وأكثر حساسية من موازين الذهب، لأن خطأه يمكن أن يضر
بمصالح الدولة أو يضر بوعي الناس ووجدانهم، عندما يظهر في كلامه الانحراف عن
الحقيقة أو الجهل بالتاريخ أو باختصار تنضح من كلامه الأمية الفكرية والثقافية
والعلمية والتاريخية، ولذلك كان الدرس الأول لأي مسؤول هو أن يتحفظ ويتحرز من
الأقوال والأفعال، حتى وإن كانت مباحة لغيره.
وسواء كان الكلام الذي نسب إلى أحد الوزراء
الحاليين صحيحا أو غير صحيح، فإن الأسطوانة المشروخة حول مجانية التعليم والصحة،
وحول إلصاق أسباب تردي التعليم والصحة، وغيرهما بثورة يوليو وقائدها جمال عبد
الناصر هي أسطوانة تستحق أن تتحطم وليس أن تتوقف فقط.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فإنني سأحكي مشهدا كنت
طرفا فيه منذ سنوات قليلة مضت، إذ كنت في أحد النوادي الاجتماعية الخاصة التي
يرتادها رجال أعمال وميسورون من مختلف الفئات والانتماءات الاجتماعية والمشارب
الفكرية والتوجهات السياسية، وفيما كنت أمر أمام مجموعة من مشاهير رجال الأعمال،
أذكر منهم المهندس نجيب ساويرس والدكتور أحمد هيكل، وإذا بالمهندس ساويرس يبادرني
بحوار إنساني لطيف أشار فيه إلى أنه بمناسبة أنني ناصري، فإنه يحترم زعيمي فيما
يتعلق بفكره ودوره العربي، أما على صعيد آخر فقد أضاع زعيمي الدنيا، لأنه هو الذي
وضع قاعدة "البلوشي" أي المجاني.. في التعليم والصحة وغيرهما.. وفوجئت
أن الواقفين معه متفقون على ما يذهب إليه ومعهم الدكتور أحمد هيكل، وعندها سألته
وسألتهم سؤالا مباشرا هو: "هل حضراتكم والرأسمالية المصرية بوجه عام بل
والتحديث المصري كله كان يمكن أن يتم وتراكموا ما راكمتموه من أصول وثروات ومشاريع
بغير قناة السويس وشبكة الري المصرية وخطوط السكك الحديدية، وجسور النيل التي كانت
تتخذ طرقا للمواصلات؟!"، وكان الرد المباشر هو: "وما العلاقة بين حديثنا
عن عبد الناصر والبلوشي - وأنا هنا أستخدم اللفظ الذي استخدمه بعضهم ويقصد به
المجانية- وبين ما نتحدث عنه؟!"، وأجبت: "إن العلاقة هي أن من حفر قناة
السويس وحفر قبلها ومعها وبعدها شبكة الري التي تمتد رياحاتها وترعها وقنواتها
آلاف الكيلو مترات ومد خطوط السكك الحديدية عند إنشائها، وكان يقف حارسا لجسور
النيل يحميها من الانهيار أثناء الفيضان ويراعيها بالرش والدك لتتحمل سير المركبات
والدواب وبدون أجر "أي بلوشي"، هم الفلاحون أي الغالبية الساحقة من شعب
مصر الذين حفروا القناة والرياحات والترع والقنوات بدون بلدوزرات وإنما بالفؤوس
والكواريك والمقاطف، وكان زادهم البتاو والبصل والمش، ومأواهم عشش من أعواد الذرة
الجافة أو خيام مهلهلة ولا توجد مصادر للمياه العذبة وتفتك بهم الأمراض المتوطنة..
ومات منهم مئات الألوف بعد أن تم سوقهم بالسخرة والكرابيج لأداء المهمة؟!.. هذه هي
قصة البلوشي الأصلية، ثم جاء من أصلابهم رجال من بعد رجال حاولوا إنهاء هذا الظلم
والحصول على أدنى حقوق الحياة، وكان منهم عرابي ورفاقه إلى أن تمكن الفلاحون من
إنجاب الجيل الذي جاء منه رجال يوليو أبناء الجيش المصري وعلى رأسهم جمال عبد
الناصر الذي حاول أن يرد بعضا يسيرا من الجميل لأصحابه، فكان أن مضى على خطى
العميد العظيم طه حسين في مجانية التعليم واتجه لإنقاذ أهله، أي تلك الغالبية
العظمى مما هي فيه من جهل وفقر ومرض، وانقضى عمره وهو مؤمن أنه لم يؤد ما كان يجب
عليه أن يفعله".. عندها أدار السادة المنتقدون للبلوشي رؤوسهم وانصرفوا عن
استكمال الحوار، فإذا أضفنا أن الرأسمالية الحالية - وهي منحطة بكل المعايير قياسا
على الرأسمالية الأوروبية والأمريكية - أخذت وتأخذ مجانا أو شبه مجانا الأراضي
والكهرباء والغاز والأمن ومعفية من الضرائب، ناهيك عن التهرب وناهيك عن الامتناع
عن أي دور اجتماعي، وناهيك عن أي مساهمة في مشاريع قومية، مثلما حدث في مشروع قناة
السويس الجديدة، لعرفنا أن البلوشي الحقيقي ليس هو التعليم والصحة وغيرهما من
الفتات الذي يحصل عليه غالبية الشعب، وإنما هو ما قدمه الشعب للوطن منذ حفر القناة
إلى الآن.. فإذا وصلنا إلى أن من يبذل روحه ودمه في الحروب الدفاعية عن الوطن وفي
مواجهة الإرهاب هم أبناء تلك الغالبية، لأدركنا حجم المغالطة بل الجريمة التي
يرتكبها من يردد الأسطوانة المشروخة الخاصة بالتعليم والصحة وثورة يوليو وعبد
الناصر.. المطلوب أيها السادة هو قليل من الوعي ومن محو الأمية الحضارية والثقافية
والتاريخية، فربما ينصلح الحال!
نشرت في جريدة الأهرام
بتاريخ 16 مارس 2017.
No comments:
Post a Comment