كانت القاعة مكتظة
بالحضور.. كلهم من "كريمة المجتمع" ومنهم غير مصريين وسط غالبية مصرية..
وقد استقرت الجلسة وبدأ صاحب الدعوة يقدم المتحدث، وكان المكان هو منزل السفير
السعودي بالقاهرة.. وكان السفير هو الراحل الكريم الدكتور هشام ناظر.. وكان
المتحدث هو الأستاذ سيد ياسين.. وكان الموضوع عن المشروع الثقافي العربي.. وتحدث
الأستاذ سيد، وبدأت التعقيبات.. وجاء تعقيب من الأستاذ فاروق شوشة، رحمه الله،
الذي سأل سؤالا تقريريا أكثر منه استفهاميا: ما تفسير الأستاذ سيد لانهيار المشروع
الثقافي الليبرالي مع مجيء انقلاب يوليو 1952؟
وقدم السائل شبه مذكرة
تفسيرية لسؤاله، مما جاء فيها أن يوليو لم تنجب أمثال العقاد والرافعي وطه حسين
والمازني والزيات وغيرهم، وكان السؤال أقرب للطريقة التي دائما ما تندر عليها
الراحل الصديق الكبير الأستاذ كامل زهيري، الذي كان يسخر من المذيع الذي يسأل السؤال
ومعه إجابته، من نوع ما رأي الضيف في سياسة حكومتنا الحكيمة؟! وعن نفسي فقد توترت
من سؤال الأستاذ شوشة وتحفزت للرد، خاصة أننا على "أرض" قد يرى البعض
أنها لا تود يوليو ولا قائدها وجاءت الإجابة مزلزلة، وبعدها تعقيب من السفير أشد
وقعا!، إذ بدأ الأستاذ سيد ياسين إجابته بأن قال: أولا يوليو لم يكن انقلابا بل
ثورة بالمعنى الكامل.. وثانيا لم يكن هناك مشروع ثقافي ليبيرالي ولا غير ليبرالي
قبل يوليو، وإنما حالة ثقافية يبرز فيها بعض الأفراد كنجوم، أما المشروع الحقيقي
للثقافة فقد جاء مع مسيرة يوليو واستبدل بالنجوم الكبار آلافا من المبدعين في
الآداب والفنون.. وانتشرت سلاسل الكتب رخيصة الثمن ثمينة المضامين، واتسعت قاعدة
التعليم وأنشئت مراكز البحث وانتشرت المجلات المتخصصة والدوريات الرصينة!
وأخذ الأستاذ سيد ياسين
يفصل في الإجابة حتى اعتذر عن عدم الإجابة على أسئلة أخرى، لأن الوقت انتهى..
وبعده عقب صاحب الدعوة بأنه وهو طالب في الدراسات العليا في هارفارد سأل الأستاذ
الطلاب أن يرتبوا دول العالم حسب القوة، وكان ذلك عام 1959 وتنوعت الإجابة بين من
وضعوا الولايات المتحدة أولا أو الاتحاد السوفييتي وهلم جرا، إلا هشام ناظر الذي وضع
مصر في الترتيب الأول لتضج القاعة بالضحك الساخر.. وطلب إليه أستاذه أن يفسر
لماذا، فأجاب أنه وضع معيارا للقوة هو قدرة الدولة على تحقيق معظم إن لم يكن كل ما
أعلنته من أهداف، وأنه يجد أن مصر ـ آنذاك ـ حققت ما أعلنته من استقلال وتنمية
ووحدة عربية وثقافية واسعة النطاق عميقة الجذور.. وكان أن انبهر أستاذه وقال له
هذه هي أطروحتك لدرجتك العلمية!
ذكرت تعقيب صاحب الدعوة
لأنبه إلى أن إجابة الأستاذ سيد ياسين التي جاءت صادمة للسائل ولكثير من الحضور
توقعوا ولو إجابة غائمة، حرصا على مشاعر أهل الدار، كانت هي من وراء إفصاح السفير
عن واقعة قد لا يعرفها أحد!
قل ما شئت من ثناء على
علم وثقافة ومعلومات سيد ياسين ودأبه في الاطلاع على أحدث ما أبدعه العقل الإنساني
في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولكن ما يجب أن نتوقف عنده هو شجاعة الرجل
في مواقفه، وقدرته على نسبة الفضل لأهله، سواء كانوا تلاميذه أو أصدقاءه أو من لا
علاقة إنسانية له بهم، إذ لم يكن يتردد في أن يرفع سماعة الهاتف ليسمع المتلقي
ثناء على مقال كتبه أو حديث بثه أو حوار شارك فيه، وفي الوقت نفسه كان لا يتردد
أيضا عن أن يقدم النقد الموضوعي لما يستحق النقد من باب الانتقاد.. خسارة كبيرة أن
تفقد مصر جزءا غاليا من علقها.
نشرت
في جريدة الأهرام بتاريخ 20 مارس 2017.
No comments:
Post a Comment