كانت أسهل طريقة عند
البعض للتهرب من دفع فاتورة الكهرباء هي إفساد العداد- "تبويظه"- وكذلك
الحال في عداد المياه، وساعة الحضور والانصراف، وأيضا عداد التاكسي الأبيض لزيادة
المدفوع! ويبدو أن العدوى قد انتقلت من الموظفين الصغار والمستهلكين، وأصحاب التاكسيات
الضلالية إلى بعض كبار المسؤولين، بل وأحيانا من يوصفون بالمفكرين والساسة، فتراهم
وقد لجئوا لإفساد المعايير والمقاييس والنماذج التاريخية السليمة حتى لا يقاس بها
أو عليها، ومن ثم يظنون أنهم أفلتوا من الحساب لأن مسطرة القياس محطمة أو مشكوك
فيها! وهي ظاهرة غير مقترنة بمكان محدد أو زمان معين، بل وجدت في التاريخ قديمه
ووسيطه وحديثه ومعاصره وشهدتها بلاد بغير حصر، والفرق هو أنها تبدو فاقعة فاضحة في
مكان وزمان ما.. وهو ما تشهده مصر المعاصرة بين حين وآخر وتجاه ثورة يوليو، وعلى
الأخص جمال عبد الناصر!
وكانت آخر ضبطية في هذا
الصدد- ولن أقول فضيحة- ما نسب لوزير الصحة الذي تقول موسوعة ويكيبيديا أنه أمضى
ثلاثة عشر عاما في كلية الطب بدلا من سبع سنوات، وقبض على مستشاره صديقه وزميله
منذ شهور متلبسًا برشوة هائلة، ودوت أزمة الدواء نقصًا واختفاء وزيادة في السعر في
أيامه الزاهرة، ولذلك أخذ يبحث عن شماعة فلجأ إلى الأسلوب القديم وهو تلبيس التهمة
لشخص بعينه وسياسات بذاتها، ولفرط شجاعته اختار من رحل إلى رحمة الله، ومضى على
رحيله قرابة نصف قرن!
لم يكن وزير الصحة أول
من لجأ لهذا السلوك الشائن، ولن يكون آخر من يفعل ذلك.. وهو سلوك شائن لأنه يتضمن
عدة خصال من توافرت فيه فقد ارتكب الشائنة حتى وإن كان وزيرا أو أعلى من ذلك. خصلة
الكذب.. ثم خصلة الجبن.. وخصلة الجهل.. وخصلة الوقاحة.. وفي هذا شرح يطول، قد
أختصره فأقول إنه كذب لأن من وصف التعليم والدواء بأنهما كالماء والهواء كان طه
حسين ولم يكن عبد الناصر، ولأن تهاوي الخدمات الصحية والطبية لم يحدث بعد
المجانية! وهو جبن لأن قائله اتهم من لا يستطيع دفاعًا عن نفسه، ولو كان حيًا لما
جرؤ هو ولا أتخن منه على النطق ببنت شفة أمامه أو عليه.. وهو جهل لأن المعلوم أن
في الدنيا المعاصرة دولًا عديدة فيها مجانية كاملة للتعليم من الحضانة حتى
الدكتوراه كألمانيا مثلا، وأنه لا علاقة بين المجانية وبين التردي في التعليم أو
غيره، وهو أيضا وقاحة لأن الوقاحة هي التمادي في الباطل على رؤوس الأشهاد مع العلم
بأنه باطل، ودون خشية من ضمير ولا حساب من سلطة.
ويبقى السؤال معلقًا:
لماذا عبد الناصر بالذات وليس فكره أو سياسته كالاشتراكية مثلا أو الانتماء العربي
أو الانحياز للفقراء؟! والإجابة عندي هي كما أسلفت، لأن عبد الناصر الشخص والفكرة
والممارسة والمصير يمثل مسطرة اتخذها العقل والوجدان الجمعيان المصريان والعربيان
والتحرريان على نطاق عالمي في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ليقيسا بها كل
السياسات والممارسات والمواقف والمسلكيات التي يصادفها المجتمع في حياته.
فعبد الناصر الشخص لم
يكن- وبشهادة كل أجهزة الاستخبارات المعادية له- لديه ثغرة يمكن النفاذ منها
لتجريحه أو كبحه أو تدمير سمعته.. فلا نساء ولا خمر ولا ميسر ولا فساد من أي نوع،
ولا بذخ، ولا كيل بمكيالين أحدهما له ولأسرته وأهله وأصدقائه وزملائه والثاني
للآخرين! ورحل ليكون مماته شهادة على نزاهته وزهده وتعففه وتفانيه، ولتكون جنازته
شهادة لا يستطيع أحد من كان أن ينكرها وأن ينكر مكانته في قلوب وعقول الملايين!
وعبد الناصر الفكرة..
أي الوطني المصري الخالص.. والعروبي القومي لأجل مصر أولا وأمته العربية، والإنسان
التحرري الذي كان رمزًا للتحرر الوطني في القارات الثلاث، والذي ما زال قادة وشعوب
وراء المحيطات يفخرون بأنهم يعتزون بالانتساب لأفكاره.. ومن ثم فإن عبد الناصر
الممارسات- وعلى جسامة بعض الأخطاء- بقى ساكنا وجدان أمم وشعوب لا لشيء إلا لأنه
انحاز للإنسان وللحرية!
أمام ذلك يأتي المهمل..
أو الفاسد.. أو الانتهازي أو الجاهل، ليبدأ أولا بهدم النموذج وتدمير المسطرة لكي
لا يقال له إن هناك نموذجًا وإن هذه هي المسطرة التي نقيس عليها!
والعجيب أن هؤلاء
المساكين لا يدركون أن الأمر يتجاوز شخص عبد الناصر وكل ما يتصل به إلى كونه
معيارًا إنسانيًا ومسطرة عقلية ووجدانية يبقيان ما بقي للإنسانية وللعقل وللوجدان
وجود.
نشرت
في مجلة المصور عدد 4824 بتاريخ 22 مارس 2017.
No comments:
Post a Comment