Thursday, 17 December 2015

قضــية الغــاز (2)


تلقيت عدداً كبيراً من التعليقات والتعقيبات على ما كتبته عن قضية الغاز الأسبوع الفائت، وبغير مبالغة فقد نال الأمر اهتماماً من القراء أكثر من عديد من القضايا التى أثرتها.

وفى البداية أؤكد ما يلي: أولا: أننى لست من دعاة البكاء على لبن مسكوب بقدر أننى من دعاة الاستفادة من درس سكب اللبن وهدره وحرمان مستحقيه منه. وثانيا: أننى لم ولن أكون فى موقع يختصم متطلبات الأمن القومى لوطننا الغالى أو يضعها موضع الأمور العابرة، لكننى فى الوقت نفسه أؤمن بأنه لا عصمة للبشر أيا كان موقعهم وقدرهم، وأن الأخطاء والانحرافات واردة، ولذا فإن التصحيح والترشيد واجبان وجوبا صارما. أما ثالثا فهو: أننى أدرك - وبحكم المدى الزمنى الطويل الذى مارست فيه اهتماما بالشأن العام فى مصر والأمة العربية - أن تحميل الأمور فوق طاقتها ينتقل بصاحبه من خانة النقد البناء وخدمة الوطن إلى خانة الاصطياد والهدم وتعريض الوطن للمخاطر، عدا عن أنه ليس من الإنصاف ولا الموضوعية تحميل القيادة السياسية المصرية الراهنة أوزار حقب مضت كانت كالحة السواد بالاستبداد والفساد!

وما سأستكمله اليوم حول القضية ذاتها أستمده من كراسة مرجعية صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بعنوان (فساد تعاقدات الغاز فى عصر مبارك.. تحليل قانونى واقتصادي) أعدها الباحث الدكتور «عمرو عادلى»، مدير وحدة العدالة الاقتصادية والاجتماعية و(ميكا مينيو بالويلو) الباحث بمنظمة بلاتفورم ببريطانيا، وضبطها بحثا عبده البرماوى، وقد وجهت المبادرة شكرا خاصا للأستاذ عمرو حمودة، رئيس مركز الفسطاط للدراسات والاستشارات، على ما قدمه من وقت وجهد للانتهاء من تلك الدراسة.

وبالطبع فإننى لن أستطيع نشر الدراسة كلها ولا معظمها، وإنما سأركز على بعض النقاط التى أراها مهمة، مع ما يعنيه ذلك من احتمالات الاجتزاء أو الابتسار، ومرة ثانية أؤكد أن الفترة المقصودة فى كل ما أشير إليه هى فترة اللص - حتى الآن بحكم المحكمة - محمد حسنى مبارك!

تتحدث الدراسة عن الجذور المؤسسية للفساد فى قطاع البترول، فيما يتعلق بالتسعير البخس والأضرار البيئة، وتردها إلى أسباب أربعة، أولها: سوء إدارة الموارد الطبيعية، وثانيها: استشراء الفساد حيث يتمكن الساسة وكبار الموظفين من تحصيل مزايا شخصية على حساب الصالح العام، فيوقعون عقودا منخفضة الأسعار وبشروط مجحفة لصالح شركات تدفع لهم رشى وإكراميات، وثالثها: افتقاد الشفافية، حيث لا يلزم القانون الهيئة العامة للبترول ووزارة البترول إلا بعرض اتفاقيات التنقيب ومنح الامتيازات للشركات متعددة الجنسيات على مجلس الشعب للموافقة عليها، وعادة ما تكون مكتوبة بلغة فنية معقدة يستغلق فهمها على النواب، فلا يتم مناقشتها أو شرحها، ومن ثم يتم تمريرها دون عناء كبير، أما التعاقدات التى يتم بموجبها تحديد التزامات الحكومة المصرية فى مقابل التزامات الشركات متعددة الجنسيات فهذه تتم دراستها والموافقة عليها من قبل الهيئة العامة للبترول بإشراف وزارة البترول، وما من مواد تلزم الهيئة بالإفصاح عن مضمون هذه التعاقدات، رغم خطورتها، حيث تحتوى على مسائل كالتسعير ومدة التعاقد ونظم مشاركة الأرباح بين الحكومة والشركة، وغيرها من المسائل الجلل، ولعل الوضع هكذا مع عقود الغاز الطبيعي، فلم يتم الكشف عن أى منها باستثناء التعاقد الخاص بتصدير الغاز لإسرائيل، الذى نظرته المحكمة الإدارية وحكمت ببطلانه.

أما رابعا فيتصل بواقع أن الهيئات الرقابية - كالجهازين المركزى للمحاسبات وللتعبئة العامة والإحصاء والرقابة الإدارية - تمارس رقابتها من داخل الجهاز التنفيذى نفسه، ومن ثم يسهل استخدامها سياسيا من قبل رؤوس السلطة التنفيذية، ولا قيمة لعملها إذا كانت رؤوس الجهاز الإدارى والسلطة التنفيذية ضالعة فى الفساد - كما هو بادٍ فى التعاقد مع شركة شرق المتوسط - ناهيك عن (تكتيك) شائع فى قطاع البترول، وهو إسناد وظائف الأمن فى شركات البترول المملوكة للهيئة العامة للواءات متقاعدين!

وتنتقل الدراسة بعد ذلك إلى ما أسمته مشكلة البخس فى عقود التصدير للأردن، فتتحدث بداية عن وصف السعر العادل الذى يجب ألا يكون منخفضا بشكل كبير عن أسعار الوقود ذى الاستخدامات المنافسة للغاز فى البلد المستورد، ولا ينبغى أن يكون السعر العادل منخفضا كذلك عن سعر السوق الموضوع للغاز المسال فى الأسواق الموجودة فى التناول، ومن ثم فإن السعر غير العادل هو الذى يتيح تحقيق أرباح مرتفعة للغاية للشركات الخاصة، أو يحقق مكاسب كبيرة للدول المستوردة. وبالنسبة للأردن فعلى الرغم من أن الاتفاقيات المبرمة بين مصر والأردن ليست معلنة لكن هناك بعض المعلومات المتداولة عنها بأن البلدين وقعا اتفاقين للتنقيب عن الغاز الطبيعى فى 2003 و2007، وأن كلا الاتفاقين حدد كميات وأسعارا مختلفة للتصدير، ونص الأول على تصدير 77 مليار قدم مكعب للأردن بسعر 1.27 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، ونص الثانى على تصدير 32 مليار قدم مكعب بسعر 3.06 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وتخلص الدراسة فى هذه النقطة إلى الحديث عن الخسائر التى خسرتها الخزانة المصرية جراء صفقات الغاز مع الأردن، وهى الخسائر التى تحولت فعليا إلى أرباح للشركات الخاصة وللخزانة الأردنية، وحيث يمكن القول إجمالا إن الخزانة المصرية خسرت نحو 2.8 مليار دولار بين 2005 و2010 نتيجة لبيع الغاز بهذه الأسعار!

وبعد الأردن يأتى الدور على التسعير البخس فى عقود التصدير لإسبانيا، فتقول الدراسة إنه تم النص بين الطرفين المصرى والاسبانى على سرية جميع مذكرات التفاوض والتعهد بعدم الإفصاح عن التفاصيل لأى شخص آخر، وتذكر الدراسة تفاصيل كثيرة عن الغاز المسال المصدر من محطتى دمياط وإدكو إلى أوروبا، وتصل إلى أن الأرقام التقديرية المتصلة بالفروق المتحققة بين الإيرادات الفعلية التى حصلتها مصر وبين ما كان يمكن تحقيقه من إيراد حال توقيع عقد بشروط أفضل فإن إجمالى الإيرادات المفقودة نتيجة التسعير البخس طيلة خمس سنوات 2010 - 2005 يتجاوز ستة مليارات دولار، يعنى نحو خمسين مليار جنيه مصر.

وبقى أن ننتقل إلى كارثة الكوارث التى أسمتها الدراسة قضية شركة غاز المتوسط كنموذج للفساد شبكى الطابع، وهو ما سأحاول عرضه الأسبوع المقبل.. ولعنة الله على كل اللصوص.


نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 17 ديسمبر 2015
لينك المقال:
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/460298.aspx

No comments:

Post a Comment