Thursday, 10 December 2015

قضــية الغــاز





عجيب أمر الحكومة المصرية، إذ أصدرت بيانا تقول فيه إن الغرامة التى قضت بها إحدى جهات التحكيم فى قضية تصدير الغاز للكيان الصهيوني، وهى غرامة تقارب مليارى دولار يعنى حوالى سبعة عشر مليار جنيه مصري، لا تخص تلك الحكومة وإنما تخص الهيئة العامة للبترول وشركة الغاز، وكأن الهيئة والشركة موجودتان فى بلاد واق الواق، وكأن الغاز مستخرج من كوكب المريخ وليس من جوف الوطن المصرى وأحشاء مواطنيه!

أما ما ليس عجيبا- لأن العجب أدنى بكثير من الوصف اللائق- فهو تحالف نظام حسنى مبارك، الذى هو حتى الآن لص بحكم المحكمة، مع الرأسمالية المصرية التى يتأكد كل يوم أن فيها ومنها عينات يتضاءل أمام تكوينها وفكرها وسلوكها أمثال دراكولا ويهوذا مجتمعين!

نحن بإزاء حالة تجسد مدى الانحطاط فى مسلك شريحة حكمت هذا البلد لمدة ثلاثين سنة، ولم تحد عما أسسه سلفها وشريحته، إذ تواتر عنه أنه قال: «مصر غليت.. ومن لن يغتنى فى عهدى لن يعرف الغنى بعد ذلك»، وكانت كارثة السداح مداح، أى الانفتاح على الطريقة الساداتية!، وهو الانحطاط نفسه، وكأننا نصادف قانون الأوانى المستطرقة، الذى ساد فى الشريحة الرأسمالية إياها، والعجيب أن كلا الطرفين كان يبدى تمسكا ملحا بالإيمان والعبادة والتقوى، ولذلك ارتبط بهم من تصالحوا معهم وتوافقوا منذ منتصف السبعينيات إلى أن جلس مرشدهم على عرش المحروسة!

قضية الغاز ابتداء من التزوير فى الأرقام باحتياطاته، يوم أن كان يطلع علينا وزراء البترول آنذاك ليعلنوا أننا طائرون ومحلقون فى طبقات هائلة من الغاز ولن تهبط بنا هذه الطبقات إلا بعد آماد بعيدة، وليس انتهاء بجريمة توريده إلى العدو الصهيونى بأسعار بخسة ضئيلة، قياسا على الأسعار العالمية، ويبدو أن خيانة الأمانة وطعن الوطن فى صميم مقدرات أجياله هى التى جعلتهم يبالغون فى أرقام احتياطى الغاز، ليبرروا قبولهم بالسعر البخس الذى حددوه للعدو الصهيوني!

وقبل أن أستطرد فإننى مازلت لا أفهم إقحام اسم إحدى الهيئات السيادية فى المسألة كلها، وكيف أن تلك الهيئة لم ترد ولم تفند، وحتى إذا كان هناك خطأ، فمن الوارد الإعلان عنه والإعلان عن إرادة صارمة لتصحيحه وعدم تكراره!

والاستطراد سيتجه إلى مجمل ثروتنا القومية من المواد الخام المشابهة للغاز، وحتمية أن تفتح ملفاتها كلها عبر العقود الخمسة الفائتة، ليعرف الشعب ماذا يملكه من ثروات أولا، ثم يعرف كيفية التعامل معها ثانيا، وثالثا يعرف من الذين سيطروا عليها وهل نهبوها وسرقوها أم لا، وحجم ثرواتهم التى اقتنصوها من جوف الوطن وأحشاء مواطنيه، ورابعا أين وكيف وظفوا هذه الثروات، وهل ساهمت فى تكريس الفساد والاستبداد، وتعميق الظلم الاجتماعى أم لا، وما هى رؤية الحكم الحالى لمواجهة ما قد يكون مستمرا من تلك المظاهر القبيحة على كل المستويات؟

سيقولون «الحقوا» هذا صوت حاقد على الرأسمالية والرأسماليين، وهذا فكر معاد للتقدم وللأسس التى كفلت للدول المتقدمة أن تصنع ما صنعته، وهذه صيحة لتكريس الحقد الفئوى وتأجيج الصراع الطبقي، وهنا أصحح بأنهم قالوا وبدأوا الفعل المضاد على كل المستويات وليس «سيقولون»، ومن هنا نستطيع أن نفهم ببساطة ضراوة الحملة المتجددة يوميا على الخمسينيات والستينيات وعلى جمال عبد الناصر وأفكاره الاشتراكية! حملة متجددة فيها أطراف أصيلة يعنى رأسماليين ورجال أعمال، وأطراف تعمل لحساب الأصليين، يعنى صحفيين وكتاب مقالات وصنايعية أعمدة صحفية، ومتحدثين على الشاشة وخلافه.. لأننا نصادف يوميا تقريبا واحدا منهم وقد فتح النار على أى حدث أو مناسبة أو مقولة أو موقف ينتمى لجمال عبد الناصر، بل إننى أجزم أن بعضهم يكتب ما يكتبه بناء على تعليمات مباشرة من رأسمالى ما يملك وسيلة إعلامية، أو بناء على رقيب داخلى موجود داخل مخ صاحب المقال يفرض عليه أن يتجه هذا الاتجاه لأنه «عربون المحبة» الدائم الذى يكفل له الاستمرار فى المساحة الممنوحة له والاستمرار فى تلقى المعلوم!

ثم إن هدفهم المضمر من وراء هذا الهجوم هو توصيل رسالة يومية إلى الرئيس السيسى ونظام الحكم، مؤداها ألا تفعلوا هذا «الكخ» لأن من يفعله فهو كذا وكيت، وسيواجه بالحملات نفسها حتى يحيد أو يختفي! وأعود إلى قضية الغاز والغرامة الفادحة وحكومتنا، لأؤكد أن ذاكرة الشعوب ليست ضعيفة، وأن تراكم الجرائم سيؤدى فى اللحظة المناسبة إلى التغيير بكل وسيلة محتملة، ابتداء من النزوع للإصلاح وإلى الثورة العنيفة.

أعيدوا محاكمة اللصوص لأن نهب الأوطان ليس كسرقة الغسيل من حبال البلكونات.


نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 10 ديسمبر 2015
لينك المقال:
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/459016.aspx

No comments:

Post a Comment