Thursday, 3 December 2015

السياسة!


دير الراهب بحيرا في سوريا

نادرا بل ربما يستحيل أن نجد مصريا فردا كان أو عائلة يباهى بأصله الإغريقى أو الرومانى العريق أو بجذوره الفرنسية أو البريطانية أو الأوروبية بوجه عام.. وحتى إن تصادف ووجدنا أحدا له شعر يميل إلى الصفرة والحمرة وعيونه زرقاء، تندرنا عليه بأنه من المؤكد مولود فى إحدى القرى الواقعة فى الخط الذى سلكته حملة بونابرت الفرنسية، أو أن جدته كانت مالطية أو «إجريجية»!

والأقل ندرة أن يتكلم البعض عن أصول لهم تركية، كالجدة لأم أو غيرها، وبعضهم لا يستهجن أن يقول إنها كانت جارية بيضاء فى البلاط الخديوى أو السلطاني، وقد جاءت فترة اقترنت فيها معايير الجمال البشرى بالوجه الأبيض المستدير والشعر الأسود الناعم، مثلما هى الوجوه المغولية، حيث الأتراك من الجنس المغولى ذى الجمجمة المستديرة والشعر غير الأجعد!

أما ما ليس نادرا وفى الوقت نفسه مثار التباهي، فهو أن يسهب البعض من المصريين فى نسبهم المقبل من جزيرة العرب وخاصة من الحجاز حيث الحرمان الشريفان، ويبالغ البعض فى الأمر عندما يصر أنه من الأشراف أبا وأما، ثم يبادرك بإخراج «الكارنيه» أى بطاقة العضوية فى نقابة الأشراف، وربما إذا سألته عن إلى أى من السبطين ينتسب أللحسين أم للحسن؟! لا يعرف الإجابة ويختصر الأمر فى أنهم قالوا له ذلك وخلاص!

نحن إذن أمام ارتباط من نوع خاص بين المصريين كشعب وبين الجزيرة العربية، وقد يظن البعض أن المسألة مرتبطة بالغزو العربى ودخول الإسلام مصر، ولكن التاريخ يقول إن الأمر أسبق من ذلك جداً، إذ لا أحد يستطيع أن ينكر مكانة مصر كموئل يفد إليه القادمون بحثا عن العيش والوفرة وأيضا الحماية من جهة الشرق، وقد حفلت الكتب المقدسة بنصوص تحتوى قصصا تتصل بهذه الظاهرة، وخاصة فيما يتصل ببعض الأنبياء والرسل، وفى المقدمة منهم أبونا إبراهيم الخليل وحفيده يعقوب وأحفاده يوسف وبنيامين وإخوتهما.. وأيضا موسى وهارون، والسيد المسيح له المجد، وكلهم جاءوا من الشرق قبل الغزو العربى وقبل البعثة المحمدية، أى من شبه الجزيرة العربية وامتداداتها فى العراق والشام!! ناهيك عن تأثير امرأة مصرية واحدة هى هاجر أم إسماعيل فى هذا السياق.

ثم إن العديد من الباحثين فى التاريخ القديم، وخاصة ما يتصل فيه بالتداخلات الحضارية والثقافية ومنها ما هو عقدي، يتصل بالعقائد الدينية، يتحدثون مثلا عن عبادة الأنثى أو تقديسها مثلما هى إيزيس ونفتيس فى مصر واللات والعزى ومناة فى الجزيرة العربية، ويذهب بعضهم إلى أن العزى هى إيزيس، ناهيك عن الطرز المعمارية ودور المهندسين المصريين القدامى فى تشييد أماكن العبادة فى الجزيرة العربية، حيث ظهر رأس الكوبرا الناشرة فى تيجان أعمدة بعض الأماكن المقدسة.

ثم إنه من المدهش حقا أن يخيم الصمت ويشيع التجاهل تجاه التأثيرات المتبادلة بين مصر وبين الجزيرة العربية فى العصر المسيحي، لأننى ممن يذهبون بناء على القراءة المتمعنة على الناحيتين المسيحية والإسلامية إلى أن التأثيرات المتبادلة عميقة، لأننا مثلا.. مثلا.. نقسم قائلين والله العظيم ثلاثة..أو ثلاثة بالله العظيم دون أن يخامر الشك من يقسم ومن يستمع أن لذلك علاقة بعقيدة التثليث!، وعندئذ يجب أن نتساءل متى حدث وكيف جاءت هذه الصيغة من صيغ القسم؟!

ثم خذ عندك وتحدث بلا أدنى حرج عن تأسيس مصر للرهبنة وكيف أن العالم المسيحى كله أخذ الرهبنة عن مصر، حيث تبرز أسماء القديسين أنطون وباخوم وبولا وغيرهم، أما العالم الإسلامى وفى القلب منه الجزيرة العربية ومصر، فقد تعاظمت فيه حركة التصوف التى كان لها، ومازال لها، رموز لا يقل تراثهم الصوفى أهمية عن تراث رموز الرهبنة، وبالمناسبة فإن البعض يتعامى عمدا عما ذكرته كتب السيرة حول واقعة الحوار بين الراهب بحيرا وبين أبى طالب عم النبي، وكيف أن الأول أى الراهب كان أول من اكتشف أن الصبى الصغير الذى كان بصحبة عمه فى قافلة قريش إلى الشام سيكون نبى الأمة، وكيف نصحه الراهب بأن يحافظ عليه حتى لا يقتله اليهود!، ولا أريد أن أستطرد حول ما ورد فى كتب السيرة نفسها عن الصوت الذى كان يسمعه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتعبد قبيل نزول الوحي، أو ما جاء عن موقفه صلوات الله عليه عند فتح مكة وتحطيم الأوثان تجاه صورة للعذراء وابنها أو تمثال لهما!.. وعلى جانب متمم لما سبق فإن الباحثين الجادين لم يقصروا فى علاقة التأثير والتأثر بين أحد المذاهب المسيحية المبكرة التى ظهرت فى القرن الثالث الميلادى وتعاظمت فى الربع الأول من القرن الرابع، وكان له أطروحته فيما يتعلق بطبيعة السيد المسيح واعتبر بعد ذلك هرطقة وبين الإسلام، وفى هذا يستشهد البعض بما تواتر عن أنه رسالة النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل عظيم الروم وفيها عبارة تشير إلى ذلك المذهب المسيحي.

وإذا انتقلنا للعصر الإسلامى بحقبه المتعاقبة، فإننا بصدد مسار آخر فيه تفاعلات وتأثيرات متبادلة بغير حصر، وفيها ما هو إيجابى وما هو سلبي، ولكنها كلها فى المحصلة النهائية تفاعلات إنسانية متعددة الأوجه!

خلاصة ما أود قوله فى تلك العجالة المحكومة بالمساحة هو أنه من الخطأ الذى يهبط إلى مستوى الخطيئة أن ينسب البعض علاقات هذا الحوض الحضارى المتجانس إلى حقبة زمنية بعينها، فيستقطب خصوما مباشرين لهذه الحقائق التاريخية هم خصوم تلك الحقبة، ومن الخطيئة أيضا أن يسعى البعض للتنظير لطمس مسارات تاريخية طويلة وعميقة لمجرد معاداة نظام حكم بعينه هنا أو هناك، أما ما لا يستحق أن يوصف ولو بأنه خطيئة، لأنه فيه من الانحطاط ما لا يوصف، فهو أن ينحى البعض منحى شوفينيا عنصريا فى التعامل مع حضارات وثقافات ومجتمعات إنسانية.


نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 3 ديسمبر 2015
لينك المقال:
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/457625.aspx

No comments:

Post a Comment