كنت أقدم قدماً وأؤخر أخرى ثم وجدت نفسى فى الطائرة بصحبة
أربعة أصدقاء، هم الدكتور هانى رسلان صاحب الدعوة، والدكتور طه عبدالعليم خبير
الاقتصاد السياسى، والدكتور إبراهيم نوار الخبير الاقتصادى، والإعلامى المتميز
الأستاذ بالجامعة الأمريكية حافظ الميرازى، ومن القاهرة للأقصر، ومنها إلى قنا،
ومن قنا إلى دندرة التى التصق اسمها فى ذهنى بعلامتين، الأولى: معبد دندرة الذى
درسته أثناء المرحلة الجامعية فى مادة تاريخ مصر القديم، وكيف أنه معبد متفرد
ومتميز، والثانية: العبارة التى كنا نرددها إذا أردنا شرا بأحد فنهدده «هانخليها
دندرة»، إثر غرق إحدى بواخر الركاب، وكانت تحمل اسم تلك «القرية ـ المدينة» التى
تقع بالقرب من مدينة قنا، مطلة على النيل الخالد!
كانت المناسبة هى المنتدى الاقتصادى للأسرة الدندراوية، الذى
انعقد السبت الفائت وسبقه المنتدى الثقافى، وقد دار الحوار فى المنتدى الاقتصادى
حول طاقات الجنوب!
كنت لا أعرف شيئا عن الأسرة الدندراوية إلا نذرا يسيرا جدا من
بعض الأخبار فى الصحف ومن حوارات سريعة للغاية مع الصديق هانى رسلان، إلى أن دخلت
مع الصحبة من البوابة الكبيرة إلى الممر الطويل، حيث يصطف عدد من الشباب المرتدى
ثيابا إفرنجية أنيقة، ثم إلى السرادق الممتد على أعمدة خشبية وعليها «الفراشة»
المدموغة بخاتم الأسرة الدندراوية.. سرادق أو بلغة أهلنا «صيوان» على امتداد البصر
يغطى نحو خمسة أفدنة، ومنصة مهيبة وميكروفونات ذات سماعات ضخمة تبث الصوت بلا أدنى
صدى أو شوشرة!
دخلنا وقدمنا الدكتور رسلان إلى عميد الأسرة الدندراوية الذى
يحمل لقب «الأمير» هاشم بن الفضل بن العباس بن محمد الدندراوى.. شاب فى العقد
الخامس، يرتدى الجلباب الصوفى التقليدى ذا القياطين فى أكمامه وفتحة صدره،
والعمامة البيضاء الملفوفة لفة صعيدية على طاقية بيضاء.. وتواضع بلا حدود.. ثم بعد
لحيظات كان الرجل يترجم من الإنجليزية إلى العربية العرض الذى قدمه أحد رجال
الأعمال الإندونيسيين، وقبلها كان يلقى كلمته بعربية فصيحة سليمة لا لحن فيها ولا
تحريف ولا غموض، وموضوعها عن التنمية المستدامة فى جنوب مصر ودور المراكز التنموية
التى أقامتها الأسرة الدندراوية.. ما الحكاية؟!
الحكاية أننى ومئات وربما آلاف مثلى كنا وما زلنا نحلم بنموذج
وطنى تنموى شامل له أبعاد حضارية وثقافية ووجود شعبى واسع ويعتمد العلم
والتكنولوجيا والتدريب المتخصص مناهج ووسائل ويرتبط به الناس بمختلف فئاتهم
وطبقاتهم وطوائفهم ومذاهبهم الفقهية والفكرية ومشاربهم الوجدانية وتوجهاتهم
السياسية!
وهناك فى دندرة، لم أجد مدخلا للكلمة القصيرة التى ألقيتها إلا
أننى وجدت الحلم محققا على أرض الواقع!
كنت ومازلت أتحدث وأكتب عن الخميرة والضفيرة.. وأستشهد بقول
السيد المسيح له المجد «قليل من الخميرة يخمر العجين كله» عندما أشرح أقرب وأسهل
وأقوى الطرق لنشر وتعميق التنمية الشاملة والمستدامة فى ربوع وطننا، حيث يمكن
لمجموعة صغيرة «خميرة» أن تبدأ التفاعل لتنتقل إلى محيط أوسع فأوسع!
أما الضفيرة فهى تجسيد لعبقرية المصريين فى جدل أو تضفير
المعطيات الحضارية والأبعاد الثقافية بالمعنى الواسع للثقافة فى ضفيرة أو ضفائر
متماسكة شديدة التداخل عظيمة القوة.. وعادة ما أضرب مثلا بضفيرة إيزيس والعذراء أم
النور والسيدة زينب أم هاشم، وكلهن عند المصريين طاهرات، تجمعهن وحدة المعاناة
والصبر والتحمل والعطاء.. فإيزيس عاشت محنة قتل وتمزيق زوجها أوزوريس وتوزيع
أشلائه على فروع النيل الاثنين وأربعين فجمعتها وحملت حملا معنويا من رفات زوجها
لتنجب حورس ويأتى من دموعها فيضان النيل.. والعذراء أم النور عاشت محنة آلام ابنها
له المجد وصبرت وأضحت من اصطفاها الله وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، وكذلك
السيدة زينب التى عاشت محنة أخيها سيد الشهداء الحسين بن على وبقية أسرتها، وصمدت
ودافعت بقوة عمن تبقى من نسل أخيها وواجهت الطغيان الأموى ببسالة نادرة!
فى دندرة استمعت وشاهدت.. استمعت لإنجازات هائلة فى خدمة الناس
بالتعليم والتدريب والتوجيه والسلوك القويم، وشاهدت البشر المملوئين حياء ووقارا
ومودة وقدرة على العطاء.. والآخرين الذين عبروا عن فرحهم بالتحطيب والموسيقى
البديعة! ثم جلست إلى الأمير هاشم لأستمع إلى رجل يجيد الإنصات ويتقن الحديث الذى
يمتلئ بالمضامين وحب الخير والحق والجمال، وطالعت الصرح الذى بناه أبوه للضيافة
على الطراز المصرى القديم، الذى يحوى داخله فنون العمارة الإسلامية، ثم عدت لأنقب
عن المعلومات.
فى عام 1875 أسس السلطان محمد الدندراوى هذا الجمع، الذى حمل
عدة أسماء منها «الجماعة السلفية أتباع السادة الدندراوية» و«مريدو الطريقة
الأحمدية» و«مريدو الطريقة الرشيدية» و«جمعية أبناء العباس» و«رجال الدندراوى»،
وحيث إن هذه الأسماء كلها لا تنطبق على ذلك الجمع البشرى المسلم، لذا ففى عام 1973
استقر القرار على أن يتخذ اسما مشتقا من هوية تكوينهم المحمدى، ومن ملامح كيانهم
الدندراوى، فكان الاسم المختار هو «جمع إنسان محمد ــــــ الأسرة الدندراوية»!
إنهم يفرقون بين السلفية والتسلف ولذا لا يرفضون الصوفية بل
ينظرون إلى المشارب الصوفية على أنها مدارس الآداب المحمدية التى تختص بتعليم
المسلم أصول أحكامه الإسلامية بحسن التأسى بالأسوة المحمدية الحسنة، وتكسبه الذوق
الرفيع فى الإدراك والهمة العالية فى الإرادة، كما أن هذه المشارب تغذى الأرواح
بأوراد أذكارها وصلواتها، وترتفع بالإنسان الذى يمارسها من سفلية طينته إلى سمو
بشريته، ولذلك فهم ليسوا طريقة صوفية وإنما يأخذون بمشرب صوفى ولا يتعصبون لمشرب
دون الآخر! وهكذا حالهم بالنسبة للمذاهب الإسلامية، فرغم أن مؤسسهم يأخذ بفقه
المذهب الشافعى إلا أن الدندراوية ينظرون إلى المذاهب الأربعة على أنها المدارس
التى يتعلم منها الإنسان المسلم أحكام الشريعة فى العبادات والمعاملات وفق مسلك
السنة النبوية القويم، ثم يأتى موقفهم من أصحاب الديانات الأخرى لينبنى على أن
مجتمع الإسلام من منظورهم هو مجتمع تعددى يعيش فيه المسلم مع غير المسلم، ويعتمدون
المواطنة كأساس للعيش فى مجتمع واحد، واحترام الشريك الاجتماعى غير المسلم، حيث
إنه ليس مقبولا عقلا وشرعا أن يتهدد أمن أى مواطن، أى حياته وسلامته وجواره.
وهناك موقفهم من المرأة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الأسرة،
وهى الشريك للرجل لتحقيق الإصلاح الإنسانى.
وفى الصف الأول داخل السرادق الذى ضم آلافا من البشر كان يتصدر
المطران الأرثوذكسى لقنا.. ورأس الكنيسة الكاثوليكية هناك وممثلون للكنيسة
الإنجيلية ورهبان بزيهم الرهبوتى البديع.
هناك أحسست بفعل الخميرة.. وشاهدت الضفيرة.
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 15
ديسمبر 2015
No comments:
Post a Comment