تلقيت الرسالة التالية
من الأستاذ الدكتور حيدر إبراهيم علي، مدير مركز الدراسات السودانية، وتعود معرفتي
بسيادته إلى أكثر من ثلاثين عامًا، وهو بروفسور ومفكر سوداني مرموق، بل لا أبالغ
إذا قلت إنه مفكر إنساني يعبر فكره وتكوينه الإنساني حدود الوطنية القومية.
الأستاذ الدكتور حيدر
يعلق في رسالته، بل الأكثر صحة يؤصل في رسالته ويعمق ما طرحه كاتب هذه السطور، في
مقال سابق عن السودان، وفي المقال ناشدت "المصري اليوم"، أن تعقد ندوة
عن العلاقات السودانية– المصرية، تدعو فيها أخوة سودانيين، فكان أن حذفت إدارة
التحرير اسمها من عنوان المقال دون أن تعود للكاتب، ليقول لها شكرًا على التغيير،
لأنه جاء أكثر مناسبة طالما أن "المصري" لن تستجيب للنداء، ومن ثم يصبح
إبرازه إحراجًا للطرفين، أي للكاتب وللمؤسسة! غير أنني أتجاوز عن الأمر، لأن هناك
ما هو أهم من مناقشة آداب العلاقة بين الناشر وبين الكاتب.
وإلى نص ما تلقيته من
المفكر الموسوعي ابن السودان الدكتور حيدر إبراهيم علي:
الأخ العزيز أحمد
الجمّال:
تحية عطرة ومني طيبة
بعام جديد سعيد تتحقق خلاله الأمنيات المؤجلة طويلًا.. وشكرًا على مبادرتك التي
تعمل على إبعاد مزاج الاكتئاب السياسي، الذي يهيمن على الطرفين ويتجلى في اللغة
الهابطة والخطاب البذيء والعجز عن الحوار الموضوعي، وفي إفساح المجال لإعلام
"فرش الملاية"، بلغته السوقية، لكي يشكل الوعي الزائف المتبادل وسط
الجماهير، وانتقل نقاش الحواري والبلطجة إلى استوديوهات التليفزيون، والتي صارت
أقرب إلى الغرز غير الممنوعة.
عجزت عن تصور حقيقة
حدوث ما أطالعه في الصحف، وأشاهده على الشاشة متسائلًا: هل وصلت بنا الأمور فعلًا
لهذا الدرك السحيق من الانحطاط السياسي والثقافي، فأنا من جيل مصر التي في خاطره
تختلف تمامًا عما هو حادث، وعما يراه ويسمعه. فقد عاصرت في صباي قبل الاستقلال
بقليل الشعارات التي كانت تُطالب بشكل العلاقات مع مصر. يهتف بعضها: "عاشت
وحدة وادي النيل". كان البعض يراها في وحدة الشعبين تحت التاج المصري، ويهتف
اليساريون: "عاش الكفاح المشترك"، وهي وحدة نضال ضد الوجود الاستعماري.
كانت الجامعات المصرية تعج بالطلاب السودانيين، كما أُرسل عشرات الطلاب المتفوقين في "بعثة السنهوري"، نهاية الأربعينيات إلى فرنسا، وعادوا ليتصدروا الحركة الوطنية، وتقلد بعضهم مواقع مهمة في الحكومات الوطنية. وفي الوقت ذاته كان عساكر الهجانة السودانيون يحرسون الحدود المصرية، مدافعين عن وطنهم الثاني، ويجعلون من (عين شمس) و(الجبل الأصفر) أحياء سودانية داخل القاهرة، وتمت عشرات الزيجات المختلطة.
كانت الجامعات المصرية تعج بالطلاب السودانيين، كما أُرسل عشرات الطلاب المتفوقين في "بعثة السنهوري"، نهاية الأربعينيات إلى فرنسا، وعادوا ليتصدروا الحركة الوطنية، وتقلد بعضهم مواقع مهمة في الحكومات الوطنية. وفي الوقت ذاته كان عساكر الهجانة السودانيون يحرسون الحدود المصرية، مدافعين عن وطنهم الثاني، ويجعلون من (عين شمس) و(الجبل الأصفر) أحياء سودانية داخل القاهرة، وتمت عشرات الزيجات المختلطة.
وفي تلك الفترة كان
الشعراء السودانيون: جيلي عبد الرحمن، وتاج السر الحسن، ومحمد الفيتوري، ومحيي
الدين صابر ومحيي الدين فارس، وجماع، وعبد الله الشيخ البشير؛ يزينون منتديات مصر
الأدبية، وقبلهم شجّع العقاد الأديب معاوية نور على الكتابة في جريدة (السياسة)
وقد فعل. وعند تأسيس صحيفة (المساء) مطلع الستينيات أُوكلت لجيلي عبد الرحمن مهمة
الإشراف على الصفحة الثقافية. وغنت أم كلثوم للشاعر السوداني: "هذه
ليلتي".
أما في سودان تلك
الحقبة فقد كانت جامعة القاهرة- فرع الخرطوم- تمثل منارة ثقافية وفكرية وأكاديمية.
ولا تنسى جامعة الخرطوم الدكتور عبد العزيز إسحق، الذي أسس حين عاد منها إلى مصر:
"الرابطة الإفريقية"، ولتظهر أسماء كالنجوم الباهرة مهتمة بإفريقيا
والسودان: محمد فائق، عبد الملك عودة، حلمي شعراوي وبطرس غالي. وجاءت أفضل
الكتابات بالعربية عن السودان من مصريين، على رأسهم المرجع العمدة لعبد المجيد
عابدين: "تاريخ الثقافة العربية في السودان"، وفي التاريخ الوسيط، كان
المرجع كتابات مصطفى مسعد، ولاحقًا شوقي الجمل ومحمد فؤاد شكري، ونسيم مقار، وفي
الأدب: عبد بدوي، وعز الدين إسماعيل، ومحمد النويهي، وأنا نفسي درست في معهد
المعلمين العالي- كلية التربية لاحقًا- على يد د. محمد زكي العشماوي، الذي عرّفني
بالشعر الحديث، وكان يجول داخل القاعة ويقرأ علينا بصوته الجهوري المُنّغم وقوامه
الروماني القديم: قصائد عبد المعطي حجازي، "الطريق إلى السيدة"، وصلاح
عبد الصبور: "شنق زهران"، ومسرحيات "أوديب ملكًا"، ودرست على
يد د. خليل عساكر العروض وشذرات من اللغات السامية.. وقد كانت كتابات د. سعد ماهر
حمزة من المساهمات المبكرة في الاقتصاد، كذلك كانت كتابات الدكتور كمال دسوقي في
علم النفس الاجتماعي، وصلاح الدين الشامي في الجغرافيا ود. محمد عوض محمد صاحب
المرجع الرئيس: "السودان الشمالي وقبائله"، وكان كتاب د. عبد القادر
محمود "الفكر الصوفي في السودان"، المبادرة الأولى في هذا الميدان
العلمي، ولا ننسى د. محمد محيي الدين عوض في القانون، ود. طلبة عويضة الذي فتح
قلبه وجامعة الزقازيق حين عاد إلى مصر للسودانيين. وتخصص كثيرون محبون للسودان في
تأليف الكتب عن السودان، تميزت كتاباتهم بالرصانة العلمية والمحبة معًا، وعلى
رأسهم الأساتذة حلمي شعراوي، الذي درس في جامعة "جوبا"، والمرحومان يوسف
الشريف وأحمد حمروش والأستاذة أمينة النقاش.
نحن من جيل يتذكر جيدًا
كيف اختلطت دماء وأرواح المصريين والسودانيين في سجون إبراهيم عبد الهادي خلال
العهد الملكي. وكتب أحمد الرفاعي في سيرته: "يساري متميز"، ما يلي:
"بعد الإفراج عني ببضعة أيام فوجئت بأحد الرفاق يطرق الباب ويستفسر مني:
"هل تعلم أن صلاح بشرى قد مات؟"، وأن اليوم تشييع جنازته؟ وأحسست
بالمأساة، صلاح كان زميلي في مدة السجن، صلاح بشرى ابن السودان، وطالب الهندسة
المصاب بالسل، الممنوع عنه الدواء حتى يركع". (ص128) وجابت القاهرة مظاهرة
تحمل جثمان مناضل سوداني- هكذا كانت العلاقة يا أحمد موسى وتوفيق عكاشة- وأرسلت
الحكومة الجثمان بطائرة حربية ليدفن في مسقط رأسه عطبرة امتصاصًا للغضب. وحينئذ
كانت التنظيمات العقائدية مثل الإخوان المسلمين والشيوعيين ذات عضوية مشتركة في
البلدين. وكانت حركة "حدتو"، قد قررت أن السوداني الملتزم حين يأتي إلى
مصر يصبح تلقائيًا عضوًا في التنظيم المصري، والعكس أيضًا، يصبح المصري المنتمي
لـ"حدتو"، حين يذهب للسودان يصبح تلقائيًا عضوًا في الحزب الشيوعي
السوداني).
وللرسالة والمقال بقية
الأسبوع المقبل.
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 17 يناير 2018.
No comments:
Post a Comment