"إذا
ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا: "قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن
هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه".. فقام وأخذ الصبي
وأمه ليلا وانصرف إلى مصر.. وكان هناك إلى وفاة هيرودس. لكي يتم ما قيل من الرب
بالنبي القائل: من مصر دعوت ابني" متى 13-15.
ويوسف هو خطيب السيدة
مريم العذراء، يوسف النجار، والصبي هو السيد المسيح له المجد.. ومصر هي المحروسة
التي اهتدت للأبدية، فكان أن فصل حكماؤها القدامى تفاصيل الموت والبعث والحشر
والحساب ثوابًا وعقابًا، وكان أن جعلوا القلب محل الإيمان.. وأكدوا أن الكلمة هي
بداية البداية.. حقيقة قالها الإنجيل: "في البدء كان الكلمة".. وأقرها
القرآن "اقرأ باسم ربك الذي خلق"!
وفي اللحظة التي أراد
فيها الإمبراطور الروماني أن يفرض على أهل المحروسة مذهبه في العقيدة المسيحية،
متناسيا متجاهلا أن كرسي الإسكندرية هو في مقدمة الكراسي الخمسة الرسولية من ناحية
العقيدة القويمة واللاهوت العميق، كانت صفحة من صفحات المقاومة الوطنية الخالدة
التي أرَّخت لعصر الشهداء!
كما كان الأمر في ثورة
1919 التي انفجرت بركانًا في وجه الاحتلال البريطاني ولمساندة زعيم الأمة سعد
زغلول والوفد الذي نُفي معه، وقد حاول الاحتلال أن يلعب على وتر الطائفية الدينية
والمذهبية الضيقة، إذ صعد أبونا القمص سرجيوس منبر الأزهر الشريف ليعلن أن الدين
لله والوطن للجميع.. ودقت الأجراس وانتظمت القداسات لتدعو الله بأن يحفظ الوطن
والنيل ووحدة الأمة!
وعندما أراد القيصر
الروسي أن يضمن لبلاده نفوذًا بالقرب من المياه المتوسطية الدافئة، وتحت زعم أن
روسيا هي حامية الأرثوذكس في مواجهة عسف الغرب الأوروبي والأمريكي الكاثوليكي
والبروتستانتي أرسل لبابا الإسكندرية عارضًا الحماية الروسية، وجاءه الرد حاسمًا
قاطعًا مفحمًا على لسان البابا المصري القبطي: "نحن لا نحتمي فيمن يحتاج
للحماية.. لأننا نحتمي بالله وبوطننا"!
وعلى مدار العصور منذ
وصل القديس مرقس الإسكندرية سنة 60 ميلادية، وتأسس كرسي الإسكندرية مرتبطًا
بالكرازة المرقسية ومختصًا بالمدن الخمس في شمال إفريقيا ثم الحبشة وسائر إفريقيا؛
ظل الجالس على كرسي القديس مرقس يقود الكنيسة القبطية القويمة لتكون الدرع الحامية
في مواجهة خطرين أساسيين: خطر الانحراف العقيدي المهرطق.. وخطر تهديد الوطن من
أعداء الخارج.. وممن يريدون تفتيته وتفكيكه في الداخل.. وكلما حاول محاول من
الداخل أو الخارج أن يظن أن الورقة المسيحية هي أقوى ما يمكن اللعب به في ذلك
الباطل كانت الكنيسة المصرية هي حائط الصد الوطني ذا الجذور الحضارية والعقيدية
الضاربة في عمق أعماق الوجدان الجمعي المصري!
حائط الصد الذي تصدى
لبونابرت في حملته الفرنسية عندما حاول أن يتخذ من علاقات بعض الأسماء المسيحية به
ثغرة ينفذ منها لتمزيق النسيج الوطني.. والذي تصدى لكرومر عندما اعتمد تكتيك
"فرق تسد" ودعم مؤتمر 1910 الذي أراد أصحابه أن يكرسوا تمزيق النسيج
الوطني بعد مصرع بطرس غالي، فكان مؤتمر 1911 الذي باركته الكنيسة الوطنية، والذي
رفض كل ما طالب به دعاة التمزيق والفتنة! وهو حائط الصد الذي أشرنا لدوره في ثورة
1919.. ونشير لدوره في كل المحطات التي اشتعلت فيها نيران الفرقة والاختلاف بين
أقباط مصر مسلمين ومسيحيين!
لقد ظل أعداء الداخل
يخدمون أعداء الخارج بأن يعمدوا إلى بث سموم الكراهية وإشعال نيران التحريض والعنف
ضد المسيحيين، وقد وزّع أولئك الخونة أنفسهم بين المهمتين، مهمة التعرض للعقيدة
المسيحية ووصمها بكل النقائص، وصولًا لوصمة الكفر، ومهمة تعميق خطاب التمييز
ومسلكيات العداء لدى الجهلة المساكين، من قبيل عدم الاحتفال بالأعياد المسيحية
ورفض الود والتراحم مع المسيحيين، وتلحق بها مهمة ممارسة العنف ضد الكنائس كدور
عبادة وضد كل ما يتصل بها من مؤسسات، ليأتي عدو الخارج صائحًا صيحة الإفك الباطل
حول حماية الأقليات وغياب دور الدولة في صون حقوق المواطنة للمختلفين دينيًا.. وفي
الحالتين وعلى الفور لا تتردد الكنيسة الوطنية الأرثوذكسية القويمة من أن تعلن
موقفها الوطني: مصر وطن يعيش فينا ونعيش فيه!
نشرت
في مجلة الأهرام العربي بتاريخ 4 يناير 2018.
No comments:
Post a Comment