خضوعًا
لمطالب كثيرين من قليلين يتابعون ما يكتبه العبد لله أعود لضفيرة ذكريات الطفولة
والصبا والشباب المبكر، خاصة وقد وجدت نفسي وكأن بعض ما جرى قديمًا – يعني من ستين
أو خمسة وستين سنة – عاد ينقح على ذهني وبدني.. ونقح في الفصحى لها معانٍ عديدة
منها: "نقحته السنون: نالت منه، ونقح العود: قشره، ونقح الجذع: شذبه وأزال
عقده".
إذ
لاحظت بعض القشف على ظاهر يدي، والقشف في الفصحى أيضًا هو: "وسخ وخشونة تصيب
الجلد في الشتاء غالبًا"، وبسرعة أحضرت بعض الجلسرين ومراهم أخرى، غير أنني
سرحت في تلك الأيام التي كان فيها القشف سمة غالبة ملازمة لجلود غالبية الناس في
الريف المصري، وكان يستفحل عند البعض لدرجة إدماء جلد ظاهر الكف ومن حول الشفتين،
فإذا أضفنا ما كان منتشرًا أيضًا من إصابات "القوب"، وهي بقع خشنة بيضاء
شاحبة كانت تتوزع على جلد الوجه، عرفنا أنها لم تكن أيامًا جميلة في وجه من
وجوهها! وكانت المياه المستخدمة في معظمها عسرة لا يذوب فيها الصابون بسهولة.. وإن
ذاب فقد كانت نسبة الصودا الكاوية فيه مرتفعة،، ولأن المصدر الذي كانوا يأخذون منه
المياه - في فترة السدة الشتوية، عندما تكاد الترع والقنوات تكون جافة، بل وكان
فرع رشيد تنحسر مياهه حتى يظهر القاع - هو الطلمبات التي يسمونها "طرمبة
حبشية"، وكان الصابون الأكثر شيوعًا هو صابون الشمس المصنوع لغسل الملابس،
فلكم أن تتخيلوا حجم العذاب بعد أن تتسرب الرغوة إلى العيون والماء لا يسعف فترتفع
الأكف لدعك العيون، التي بدأت في الحرقان المتصاعد لدرجة البكاء، ولا بديل لوقف
الاحتجاج عن قرصة أذن، أو زغدة في الجنب أو صفعة قوية على مؤخرة الرأس والقفا..
وفي كثير من الأحيان كان الخروج للشارع برأس ويدين مبللين يلطشهم الهواء العنيف
البارد فيكون القشف الدامي هو النتيجة!
تذكرت
فيما أنا سارح في الذي كان، عندما تسببنا - إبراهيم ابن عمي وأنا، وكنا زميلين في
المرقد وفي دكة المدرسة، رغم أنه، رحمة الله عليه، كان يكبرني بأربع سنوات - في
كسر ماكينة الحلاقة اليدوية التي كان يمسك بها الحلاق ليحلق بها رؤوسنا بعد أن
يضبط مشطها على درجة نمرة اثنين، لأن الحلاق عادة ما يبدأ من أطراف جلد الرأس فوق
القفا والأذنين ليصعد تدريجيًا باتجاه منتصف الرأس أو "الكموخة"، الذي
يتوسطه "بريمة" شعر الرأس، وهي نقطة قلبها يظهر منه الجلد الفاتح وينبت
الشعر دائريًا وكأنه دوامة ملفوفة، وفجأة تعثرت أسنان الماكينة ثم طقطقت وطار منها
سن أو سنان، لأنها اصطدمت بكتلة صلبة في كموخة رأسنا، هي بقايا صابون شمس وأملاح
مياه الطلمبة، التي ظلت تتراكم، لأن التعليمات المستديمة هي أن نتوضأ كل يوم من
الطلمبة التي في الحوش الخارجي، بعد أن نغسل رؤوسنا بالصابون، وكل واحد
"يطمبر" للثاني.. ولأن يد الطلمبة كانت حديدية طويلة وثقيلة والدنيا
سقعة والصابون ابن ستين في سبعين يكوي المقلتين، فكنا دومًا "نتصلق"
العملية يعني الصابون في وسط دماغنا، حتى لا يتسلل لعيوننا، و"الطمبرة"،
أي تحريك يد الطلمبة للأعلى والأسفل لنزول الماء تكون مرتين أو ثلاثًا وبسرعة، لأن
اليد ثقيلة واليدين الفضيتين لا تتحملان البرد والقشف.
وتذكرت
في سرحان الكهولة كيف كان افتراء الشباب المبكر، إذ كان خالي حمدي الذي كان يسكن
صدره قلب أسد.. لا يعرف الخوف ولا التردد، يصحو عند الفجر للصلاة، وبعدها جولة في
عز زمهرير الشتاء لتفقد الغيط، وعند ترعة صغيرة تحمل اسم "العداية"، جف
ماؤها جراء السدة الشتوية اللهم إلا حفر ضئيلة "مقاميق"، فيها بقايا
مياه تكاد تتجمد من شدة البرد، ضبط أحدهم ممن تجرأ وخرج بحماره ليسرق ردمًا جافًا
يردم به زريبة بهائمه، وعند أهلنا الفلاحين يجوز إدارة الظهر لما أشيع حول تدين
المصريين بالفطرة، فيحل سرقة الردم والوقيد أي أعواد الحطب والذرة الجافة لزوم
وقود الطهو، وسرقة الذرة في موسم شي الذرة، وكذلك البامية في الصيف، ولو ضبط
السارق فإن العذر المعلن "خبر إيه أمال.. دي أرضنا.. ودي باميتنا.. ودا ذرانا"،
يعني نحن نعتبر أن مالكم هو مالنا وأنتم كرماء ونحن نستحق!!.. المهم استوقف الخال
سارق الردم ولم يسأله عن الردم، بل سأله مباشرة: "صليت الفجر؟!"، وجاء
الرد: "لا والله.. أصل أنا جنب"، يعني صاحبنا مستحيل يصلي إلا بعد أن
يتطهر.. فما كان من قلب الأسد إلا أن قال له: "خلاص اقلع واستحم"، فلما
تردد ذو الجنابة كانت أول صفعة باليد واللسان: "طالع من داركم جنب نجس..
وبتسرق"، وأمام سطوة الخال خلعت الهدوم وبدأ صاحبنا ينحني ويحاول ملء حفانه
بالماء الزمهريري ليسكبه على جسده العاري المرتعش، وقلب الأسد يأمره بأن يعيد سكب
الماء على رأسه، لأنه شرعًا لابد من وصول الماء لمنابت شعر رأس صاحب الجنابة!
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 10 يناير 2018.
No comments:
Post a Comment