أعرف بعضًا من تاريخ
السودان ومن تاريخ العلاقات السودانية – المصرية، وأشرف بصداقة إخوة سودانيين من
مختلف الاتجاهات ودرجات التعليم والثقافة، وبيننا مساحة تسمح بالصراحة المطلقة
وتبادل النكت والقفشات، لدرجة التندر المتبادل على المفارقات التي تحدث كثيرًا في
مسلكيات مصريين وسودانيين، كما أدرك التحفظات التي يسوقها سودانيون حول بعض سياسات
ومواقف الحكومات المصرية، وحول مستوى فهم المثقفين المصريين لمجريات العلاقات
وللواقع السوداني.. ورغم كل ذلك ورغم حرصي الدائم على محاولة فهم ما جرى ويجري،
إلا أن ما يحدث الآن ومنذ عدة سنوات يستغلق على فهمي وتحول إلى لوغاريتم غامض
يزداد حتى صار طلسمًا مطلسمًا مثله مثل طلاسم الكنوز المحروسة بالعفاريت! لأنني
ولا أعرف كم إنسانًا مثلي أمام علاقات ذات خط بياني شديد التعرج فادح الاهتزاز
ينحدر أحيانًا وفجأة من قمة تؤكد "أزلية وأبدية وعمق العلاقات بين الشقيقين
أو الشعب الواحد الموزع بين شمال وجنوب ووحدة التاريخ، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا
وقوة الوشائج بالنسب والمصاهرة، واختلاط الدماء في معارك الجبهة ضد الصهاينة
وقبلها ضد الاحتلال البريطاني.."، ثم فجأة وبدون سابق إنذار نجد أنفسنا في
قاع سحيق يومئ بحاضر معتل بمختلف أنواع المشاكل وينذر بمستقبل لا ضوء فيه!
كان أصدقائي السودانيون
ينقمون علينا كمصريين أن نتحدث عن السودان، باعتباره مؤنثًا مثلما نؤنث العراق
ولبنان واليمن.. وأن نتحدث عنه باعتباره الجزء الخلفي من وادي النيل أو خلفية مصر،
وأننا لم نكن نتورع في زمن مضى أن تتضمن أفلامنا ومسلسلاتنا أدوارًا لوظائف وأعمال
متدنية ونقصرها على ذوي البشرة السمراء الداكنة، بما يوحي بأنهم سودانيون أو
نوبيون.. بل كان بعض أصدقائي ينبشون في تاريخ تجارة الرقيق وضلوع تجار مصريين
فيها، وأن كثيرًا من البيوت السودانية بقيت تحتفظ على جدرانها بالحبال والأصفاد
والأوتاد، وكان آخرون منهم يتحدثون بألم عن جهل المثقفين وأهل السياسة المصريين
بالتركيبة الديموجرافية والإثنية والثقافية السودانية.. وهلم جرا.. وفي المقابل لم
يكونوا يخفون تندرهم على ذلك، حيث ينظرون للمصريين باعتبارهم "الحُمرة – حاء
مضمومة – التي أباها – أي رفضها – المهدي".. وأن المصريين "حلب"،
أي لصوص ونَوَر - نون وواو مفتوحتان- لا يرقون إلى أصالة العرق السوداني، وكنت
دومًا أردد النكتة التي يتداولونها ليصفوا جهل المصريين بالسودان، وتقول: "إن
سودانيًا سأل صديقه سؤالًا استنكاريًا استفهاميًا لماذا لا يفهم المصريون وضع
السودان ويخطئون دومًا في سياساتهم تجاهه، رغم حضارتهم القديمة ومدنيتهم الحديثة،
وريادتهم في أكثر من مجال، ابتداءً من الموسيقى والغناء، وليس انتهاءً بالآداب والفنون
والحضارة القديمة، ويرد صديقه بأن تفسير الأمر بسيط، وهو أن بعض السودانيين يبولون
في النيل والمصريون يشربون ماءه!".
ومؤخرًا جاء ما يستعصي
على الفهم، وهو مسلك ومواقف الحكم في السودان تجاه العديد من القضايا، أبرزها
العلاقات مع مصر لنرى أن القيادة السودانية تعمد إلى النكاية بجارتها الشمالية،
فتستدعي الحضور القطري والتركي، ويصل الأمر إلى ما تابعناه حول سواكن وحول التنسيق
العسكري مع خصوم مصر! وقبل سواكن كانت حكاية السدود الإثيوبية وعلى رأسها سد
النهضة، وانحياز التوجه السوداني لإثيوبيا على حساب التسوية التي تكفل ليس فقط حصة
مصر، وإنما ترتبط بحياة مصر كلها!
إزاء هذه
"الكلكيعة" أو لفة الخيط المتداخلة المعقدة الملخبطة، لا بد أن نبدأ
خارج دوائر الجهات والأجهزة الرسمية المصرية المعنية بالأمر، لنحاول بجهد شعبي أن
نمسك ببداية الخيط، ونمضي معه سنتيمترًا بعد آخر حتى يتم تسليك الخيط لآخره، ومن
ثم نظمه بطريقة سليمة.
إن هناك بديهيات أولية
لتصحيح الأمر منها مثلًا أن نتحدث عن السودان، باعتباره مقدمة المنظومة العربية
ومنها مصر باتجاه إفريقيا وليس خلفية لمصر.. وأن نساعد على توسيع دوائر التواصل
السوداني- المصري، لتصل إلى عموم الناس فيتذوقون الموسيقى والطرب السوداني،
ويقرأون الأدب السوداني وفيه عمالقة أفذاذ، ويعرفون ولو خطوطًا عريضة عن تكوين
السودان جغرافيًا وسكانيًا وسياسيًا وثقافيًا وهلم جرا.. ثم نوسع نطاق الدراسات
المتخصصة في السودان خاصة، وإفريقيا عامة، وقبل أن أنتهي فإنني أدعو أية جهة لديها
الحرص على علاقات البلدين بما يعنيه ذلك من خطورة على حياة مصر وأمنها، لتبادر
بعقد سلسلة ندوات يشارك فيها أساسًا، وفي المقام الأول، سودانيون من الأكاديميين
والمثقفين والفنانين، فلعل وعسى نستطيع بالجهد الشعبي المستنير أن نحلحل ما عقدته
السياسات الرسمية على الطرفين، فهل يمكن أن تتبنى مؤسسة "المصري اليوم"
هذه المبادرة؟!
نشرت
في جريدة المصري اليوم بتاريخ 3 يناير 2018.
No comments:
Post a Comment