قبل ظهور علوم
الجغرافيا السياسية والاستراتيجية المتصلة بقضية الأمن القومي للمواطن المصري، حدد
المصريون القدماء إطار أمن وطنهم وترجموه في عبارة قصيرة واضحة تقول إن
"الملك قاد الجيش ليؤمن الأرض - أي مصر – من منابع المياه المعكوسة إلى قرن
الأرض"، والمياه التي يقصدونها هي منابع دجلة والفرات في جبال طوروس
الأناضولية، وقالوا إنها معكوسة لأنها تجري بعكس النيل، أي من الشمال للجنوب، فيما
النيل من الجنوب إلى الشمال.. وقصدوا بقرن الأرض منطقة القرن الإفريقي، التي تضم
باب المندب والمناطق التي يأتي منها مواد التحنيط من لبان ومر وبخور وصندل، وتأتي
الحيوانات المفترسة وتتصل بمنابع النهر، ومنها بلاد بونت أي إثيوبيا وإريتريا
وأجزاء من الصومال!
نحن أمام ما نسميه
الثابت الأساسي والرئيسي في معادلة الأمن القومي لمصر، وعليه فإن كل من حكم مصر
كان لا بد أن يعرف هذه الحقيقة ويتعامل معها وفق متغيرات العصور ومقتضيات الظروف
القائمة، وهنا نلحظ أن التطور السياسي في علاقات الدول والأمم قد شهد حتمية جديدة
هي ضرورة وجود غطاء أخلاقي ومسوغ فكري وثقافي لتحقيق السيطرة على معادلة الأمن
الوطني، الذي عرف تارة بالمجال الحيوي وتارة أخرى بالدور الإقليمي والدولي، وثالثة
بالنفوذ الحضاري والثقافي إلى آخره، وجاءت ثورة يوليو بقيادة جمال عبد الناصر
ليصوغ هذا الزعيم الفذ رؤية مصر لدوائر دورها الخارجي فكانت الدائرة العربية
والدائرة الإفريقية والدائرة الإسلامية.. ولتمضي مصر في رؤية استراتيجية لتحقيق
التحرر والتنمية، ولم يكن لهذه الرؤية أن تتحقق بدرجة أو أخرى ما لم تنشأ فكرة
الدوائر الثلاث، التي كانت بحكم المرحلة التاريخية مستعمرة في معظمها ومفتتة،
ولذلك كان الغطاء الأخلاقي والفكري والثقافي لتحقيق الأمن القومي للوطن المصري،
يتكون من قيمتين رفيعتين في الوجدان الإنساني عامة والإنسان في الدوائر الثلاث
خاصة.. القيمة الأولى هي مقاومة الاستعمار وإنهاء قرون طويلة من الاستغلال والظلم
والتخلف لكل الشعوب التي عانت من ذلك، ثم السعي لتحقيق الوحدة العربية.. وتحقيق
الوحدة الإفريقية.. وتحقيق منظومة تضم دول العالم الثالث الساعية للتحرر والتنمية،
فكان الحياد الإيجابي ثم عدم الانحياز!
عدة مضامين أخلاقية
فكرية ثقافية تسلحت بها رؤية مصر لأمنها القومي لتبتعد عن أية نزعات عنصرية أو
استعمارية أو لمد النفوذ وقهر الآخرين!
لذلك لا أبالغ إذا قلت
إن الذين لم يتوقفوا عن اتهام جمال عبد الناصر بأنه أراد بناء إمبراطورية، وأنها
كانت نزوعات زعامية ومغامرات غير محسوبة كانوا وبقوا وسيظلون ناقصي الفهم عديمي
الإدراك لا يعرفون حقائق التاريخ، ولا معطيات الجغرافيا، ولا السياقات الحضارية
والثقافية، لم يخترع عبد الناصر الرؤية التي حددت الإطار الجغرافي السياسي
والاستراتيجي لمصر، ولكن إضافته الحقيقية كانت هي الضفيرة التي جدل فيها أمن مصر
ودورها مع أمن الوطن العربي واستقلاله مع تحرير إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية..
والتي أرسى من خلال مكوناتها المصرية والعربية والإفريقية طريقًا ثالثًا هو عدم
الانحياز، وهو وحدة النسيج الحضاري الثقافي للشعوب الصغيرة.
كان الاتجاه العروبي
السياسي والثقافي لمصر مرتبطًا بالحلم المصري في وطن محرر مستقل، وإنسان حر مبدع،
وفي عدل اجتماعي وكفاية إنتاجية لأن مصر المستقلة الحرة المنتجة تحتاج - فوق
مواردها الاقتصادية والبشرية - موارد للطاقة وفوائض الأموال وأسواقًا لاستيعاب
مصنوعاتها ومنتجاتها التحويلية والزراعية، وأيضًا للخبرات البشرية الجاهزة للعمل
خارج البلاد.. وكانت السوق والطاقة والفوائض متاحة في المحيط العربي وواردة في
المحيط الإفريقي العالمثالثي.. وفي كل الأحوال لزم غطاء أخلاقي وفكري وثقافي يُعطي
لهذا الطموح المصري مضمونًا إنسانيًا عميقًا فكانت القومية العربية، وكان الانتماء
العربي، وكان أمل الوحدة العربية، وما اتخذ لأجله من خطوات وتجارب.
نشرت
في مجلة صباح الخير بتاريخ 2 يناير 2018.
No comments:
Post a Comment