لعلها الصدفة أن يأتي
التحرك الشعبي في الشتاء، وأن يكون التحرك العسكري في الصيف، حيث كانت ثورة 1919
الشعبية الجارفة في مارس، وبعدها كانت الانتفاضة الشعبية الكبرى في يناير 1977، ثم
كانت الثورة الواسعة في يناير 2011، فيما كان تحرك جميع الوحدات العسكرية
المتمركزة في القاهرة باتجاه قصر عابدين بقيادة أحمد عرابي في 9 سبتمبر 1881، ثم
كان تحرك الجيش في يوليو 1952 وكان يوليو 2013 تاريخًا للحسم صنعته القوات
المسلحة!
وليناير في الوجدان
العام وفي وجدان البعض - وأنا منهم - مكانة ودلالة، فهو شهر ميلاد السيد المسيح
وشهر تعميده، أو الغطاس، وهو شهر تصدي الشرطة المصرية لقوات الاحتلال البريطاني في
الإسماعيلية عندما حاصر الجيش البريطاني بقوة تشمل سبعة آلاف جندي مزودين
بالأسلحة، وتدعمهم الدبابات الثقيلة والعربات المصفحة ومدافع الميدان مبنى قسم الشرطة،
ومبنى المحافظة في الإسماعيلية، وتصدى لهم جنود الشرطة الذين لا يزيد عددهم على
ثمانمائة فرد في الثكنات، وثمانين في المحافظة يحملون بنادق "لي إنفيلد"
ضعيفة الأداء، واستمرت مقاومة المصريين لساعتين حتى نفدت آخر طلقة، وسقط من شرطة
مصر ستة وخمسون شهيدًا وثمانون جريحًا، وعندما لم يكن من سبيل أمام الأبطال
المصريين سوى التفاوض، وضع الضابط مصطفى رفعت - رحمة الله عليه - شروطًا ووجهها
للجنرال ماتيوس قائد قوات الاحتلال، وفيها طلب مصطفى رفعت ألا ينكس علم مصر، وألا
يرفع الجنود المصريون أيديهم لأعلى أثناء خروجهم، وأن يخرجوا بشكل عسكري يليق بهم،
وأن يتم نقل المصابين، وأن يترك الجنود أسلحتهم داخل المبنى، ولا يتم تسليمها
لقوات الاحتلال.. ووافق ماتيوس، الذي كان أعلى رتبة من الجنرال إكسهام القائد
البريطاني الذي كان يحاصر الشرطة ومبنى المحافظة، وكان مع مصطفى رفعت زميله اليوزباشي
"النقيب" عبدالمسيح، الذي قرأ الفاتحة مع الجميع تعبيرًا عن تعهدهم كلهم
بالاستمرار في المقاومة والقتال حتى الموت!
ثم إن يناير هو شهر
ميلاد الزعيم الخالد جمال عبدالناصر الذي احتفلنا بمئويته منذ أيام، وهو شهر البدء
في بناء السد العالي أعظم مشروع هندسي في العالم في القرن العشرين، وهو شهر
الانتفاضة الشعبية الكبرى في 1977، التي حملت اسم ثورة الخبز، وأطلق عليها السادات
انتفاضة الحرامية، وهنا يتداخل عندي العام بالخاص، لأنني كنت ممن وجهت إليهم تهمة
التحريض على الأحداث، والدعوة لتغيير النظام وازدراء السيد رئيس الجمهورية – آنذاك
- أنور السادات، وضم قرار الإحالة في القضية رقم 100 حصر أمن دولة عليا اسمي مع
زملاء آخرين، ولأن الجلسات رفعت لأجل غير مسمى فإن حكمًا نهائيًا لم يصدر في تلك
القضية، رغم مرور أربعين عامًا على الأحداث!
في 17 يناير 1977 كنت
والمرحوم البطل المقاتل والمقاوم النزيه كمال الدين رفعت الضابط الحر، وعضو أول
خلية في الضباط الأحرار، وقائد المقاومة في القناة إبان مفاوضات الجلاء، والمسؤول
عن عدة وزارات فيما بعد، ثم سفيرًا في لندن، مدعوين لمحاضرة عن الديمقراطية في
جامعة المنصورة، وعدت للقاهرة مساء، وكانت بدايات التحرك في الشارع، حيث كانت
تجمعات ترشق القطارات بالحجارة في المنطقة من شبرا الخيمة إلى محطة مصر، وفي ميدان
رمسيس كانت الحشود تتكاثف، وعرفت أن منزلي قد تم تفتيشه، وأنه مطلوب القبض عليّ،
وقضيت أيامي من 18 يناير إلى أن قمت بتسليم نفسي يوم 28 يناير، متنقلًا بين عدة
أماكن، وأذكر دورًا نبيلًا وشهمًا للصديق المهندس رفعت بيومي، الذي حرص على أن
يصحبني في تنقلاتي المتخفية غير مبالٍ بأية مخاطر!.. والمهم أنني حبست احتياطيًا
على ذمة تلك القضية من يناير إلى سبتمبر، وكانت الزنازين - رغم قسوتها - موئلًا
لعشرات من المفكرين والمثقفين والشباب والمهمومين بهموم أمتهم من المهنيين
والعمال، أقاموا حياة مشتركة محترمة في الليمانات، ولم يتأخروا لحظة عن النضال
المستمر بعد ذلك، وبصورة مختلفة من أجل ما يعتقدون أنه خير مصر!، ولعلي أنتهي قبل
الرحيل من كتابة مذكرات المشوار الطويل، الذي كان سجن يناير أحد محطاته!
ولأن الزمار يموت
وأصابعه تتحرك، وكأنه يعزف فإنه ما أن جاء التحرك الشعبي الذي أمسى ثورة شاملة
واسعة في 25 يناير إلا ووجدت نفسي في خضم الحشود الهائلة وصار مكتبي الذي لا يفصله
عن ميدان التحرير سوى مائتي متر مكانًا للطعام والشراب وقضاء الحاجة والمبيت
لكثيرين، ومنهم من لا أعرفهم يأتون للاستراحة قليلًا خارج الميدان، ولم أكن هذه
المرة وحدي بل كان أولادي الثلاثة مشاركين في كل وقت، ومنهم أكبرهم، التي ولدت بعد
خمسة أيام من وجودي في سجن الاستئناف، وهو ما رواه بدقة ورشاقة الأستاذ الكبير محمد
سلماوي في مذكراته، وكان رفيقًا في الزنزانة رقم 27 بالدور الثاني من سجن
الاستئناف!
تُرى ما الذي يربط بين
يناير 1952 ويناير 1977 ويناير 2011، وما الذي يكمن في وجدان الجماهير العريضة،
ويظل يتراكم حتى يتحول كيفيًا إلى طاقة جبارة، إن لم يتم توظيف نتائجها وتوجيهه
وجهة سليمة كانت مدمرة لا تبقي ولا تذر؟!
ولعلي لا أتجاوز
الإنصاف إذا قلت إن جهدًا علميًا من علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والتاريخ
والسياسة لم يبدأ بعد لتأصيل الترابط بين مراحل النضال الوطني المصري، سواء كان في
الواجهة جيش مصر أو شرطتها أو شعبها، فالكل هنا واحد.
نشرت
في جريدة الأهرام بتاريخ 25 يناير 2018.
No comments:
Post a Comment