سأسميها تجاوزًا
"النخبة" التي هي اصطلاحًا المنتقى الأفضل في جنسه، يعني بالبلدي
"خلاصة الناس" من فئات مختلفة، أي مثقفين ومتعلمين وأصحاب أعمال ومال..
وأقول تجاوزًا لأنني ولسوء حظي أعرف بعضًا منهم موزعين على الثقافة والعلم
والأعمال والمال، وفيهم من هو بحق يعرف ما له وما عليه ولا يفتي فيما ليس له به
دراية، ويؤدي دوره في مجاله وفي المجال العام وعينه على الهدف الذي يخصه، والهدف
الأكبر وهو صالح الوطن.. وفيهم أيضًا من لا عمل له، اللهم إلا نشاط بيولوجي محض،
أي يتناسل ويتكلم وينام طويلًا ولا ينتج إلا كل ما يثير نقائص الفرقة والاختلاف!
وهناك من اختبر غير مرة
في عمل يفترض أنه مهنته المكتوبة في رقمه القومي، ويعرف الكافة أنه ينتسب إليها،
واختبر أيضًا في مواقع عامة حزبية أو نقابية أو في جمعية غير حكومية، وفي كل
الأحوال وجدناه عديم الموهبة فقير الإمكانيات ويغطي على ذلك كله وباحترافية شديدة
بالصوت العالي وبالتربيطات مع أشباهه وهم كثر، وبإجادة العويل والصراخ وتضخيم ما
يرى أنه كلما أمعن في تضخيمه كسلبيات النظام وبعض مسلكيات الأجهزة مثلًا ارتدت
الضخامة إليه فتنتفخ أوداجه ويتصدر الاجتماعات ويركب المسيرات ويكون اسمه في أول
قوائم التوقيعات على عرائض وبيانات الاحتجاجات!
أزعم أنني عرفتهم
وخبرتهم وأتابع ضجيجهم كل يوم!
النخبة عندنا بعد ذلك
التوصيف المزدوج منقسمة حول ما الذي له الأسبقية: الجانب الاقتصادي والاجتماعي أم
الجانب السياسي؟! وعادة ما تأتي البراهين التي يقدمها المتعصبون لأولوية الجانب
السياسي على شكل أحكام قطعية لا تحتمل جدلًا ولا مراجعة ولتقوية مسوغات الحكم
تراهم يستشهدون بما جرى في تاريخ مصر وتاريخ شعوب أخرى كالولايات المتحدة مثلًا!!،
والعجيب هنا أنهم وهم الرافضون للمطلق في التفكير وفي الحياة العامة، لأن الأصل هو
النسبي، يقعون في اعتبار توجههم هو الأمثل والأفضل والذي لا بديل عنه!
وهذا المذهب من مذاهب
التفكير سبق وأن حدث في أكثر من حالة، لأننا وجدنا من كان يذهب إلى أن
"البنية التحتية" هي صاحبة الدور الأول والحاسم والوحيد في صنع حركة
التاريخ، وأن ما عداها هو انعكاس لها وتابع، إلى أن ظهر من قال إن الأمر نسبي حسب
كل حالة وكل ظرف، وأن الأمر أشبه بالمقص، الذي إذا سألنا أي جانب فيه أو
"فردة" تقص الورق فستكون إجابتنا أن الأمر يتم بحركة الجانبين
"الفردتين"، ولا يمكن إذن أن ننظر إلى حركة التاريخ باعتبارها نتاجًا لجانب
واحد أو "فردة" واحدة من جوانب الجدل، وعندئذ تكون ناتجًا لتفاعل البنية
الفوقية مع الأخرى التحتية، يعني تفاعل الأفكار والنظريات والتصورات مع أدوات
الإنتاج وقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج! وكثيرًا ما يتم تبادل مدى الفاعلية وقوتها
بين الجانبين فتتقدم الأفكار والتصورات والحركة السياسية على غيرها في تهيئة
الظروف للتغيير والتقدم، أو يتقدم دور الاقتصاد والإنتاج بأدواته وقواه وعلاقاته
لتهيئة الظروف للتغيير، وهذا لا ينفي أن الأصل هو تفاعل الجانبين!
وهنا يكون السؤال الذي
لم أجد إجابة عنه عند عديدين من تلك النخبة: لماذا لا تتركون من يعمل لتقوية دور
الإنتاج بأدواته وقواه وعلاقاته ليستمر في عمله، وتذهبون أنتم وتفعلون ما من شأنه
تفعيل الجانب السياسي وتعظيمه؟! وأزعم أنني دقيق فيما أتساءل عنه لأنني أسأل عن
فعل وليس مجرد كلام أو ما يسميه الناس "فنجرة البق.. وطق الحنك"! لماذا
انقسمتم في أحزابكم ذات الأيديولوجية الواحدة فكان الناصريون – وأنا منهم – وكان
الماركسيون – وأنا صديقهم – وكان الليبراليون – وأنا غير معادٍ لهم – نماذج
للانشقاقات والمعارك الفارغة التي أفرغت الناصرية والماركسية والليبرالية من
مضامينها التي جعلت منها رؤى ونظريات وبرامج عمل لتغيير المجتمع؟ وهل كان السيسي
ونظامه أصحاب قرار أو حتى موجودين أثناء ومن وراء ما حدث لهذه الاتجاهات؟!
إن أحدًا لم يرصد ويحلل
ويستخلص الدروس المتصلة بمسارات تلك الاتجاهات، وكيف أن تجريف العمل السياسي،
وإنهاء فاعلية ما نسميه تجاوزًا النخبة والقوى السياسية لا يرتبط فقط بموقف نظام
الحكم في أية مرحلة بقدر ما يتصل بالبنية الذاتية وآليات حركة هذه القوى!
إن نموذج
"الندابة"، ومعها نموذج "المهرج" ما زالا ماثلين في حياتنا
العامة، حيث إن كليهما دخيل على اللحظة، فالندابة تُستأجر لتكثيف لحظة الحزن والمبالغة
لدرجة الشطط في الأحزان على الفقيد والمصاب، لدرجة تتفوق فيها الندابة على أهل
المصاب أنفسهم، وكذلك المهرج الذي يُستأجر لتكثيف لحظة البهجة.. وربما كانت
الندابة وهي تشلشل وتندب وتعوي فرحة بداخلها لسبب يخصها أو لأن أجرها ووهبتها
سيزيدان كلما أمعنت في إتقان الدور.. وربما كان المهرج كذلك أيضًا.
نشرت
في جريدة الأهرام بتاريخ 1 فبراير 2018.
No comments:
Post a Comment