التاريخ ليس ماضيًا فقط
ولكنه الماضي والحاضر والمستقبل معًا.. أي أنه الوقائع التي وقعت وتمت وصارت حقائق
على الأرض.. وهو تحليل مقدمات ومسار ونتائج ذلك الذي اكتمل، وهو الدروس المستفادة
وقوانين حركة البشر في المكان وعبر الزمان.. ومن هنا أصبح مستقرًا النظر إلى
المسارات التاريخية باعتبارها خطًا بيانيًا متصلًا، له ارتفاعاته وقممه وله
انخفاضاته وقيعانه، أو باعتبارها دوائر متصلة كالزنبرك كل حلقة تتصل بما قبلها وما
بعدها من حلقات، وعلى ذلك فإن الأوطان التي هي تجمعات بشرية تصنع تاريخها بتفاعل
المكان مع الزمان والإنسان، وتصير لها ثوابت لا يمكن تغييرها ولا التنصل منها،
ويصبح معيار تقييم الأمم لنقول إنها أمم حية، ومعيار تقييم النخب والقادة لنقول إن
كليهما أدى دوره، هو الحفاظ على تلك الثوابت والسعي لتعظيم دورها.. وهذا هو ما
فعله شعب مصر وبعض نخبته وقادته على مر العصور.
وهنا قد يأتي سؤال لم
يتورع البعض- ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين- عن تحويله إلى حقيقة لا تقبل الجدل، وهو:
هل من المنطقي وجود أمور أو ظواهر تأخذ صفة الأبدية على مر الأزمان ولا تتعرض
للتغيير أو التحول أو الإلغاء؟ وتأتي إجابتهم بأنه لا يوجد شيء اسمه ثوابت وطنية
ولا حقائق تاريخية، إنما الأمور نسبية خاضعة لمتغيرات الزمن، ومن ثم أصبحت بعض
الأمور مما تعد محرمات وطنية حلالا بلالا يرتكبونه باعتباره وجهة نظرهم المتقدمة
الفاهمة، كالتعاون مع العدو الصهيوني مثلا في أوقات ذروة عدوانه على الأمن القومي
المصري والعربي.
على ذلك، ففي تصوري،
فإن جمال عبد الناصر ليس مجرد زعيم وطني وقومي وإنساني عاش في الفترة من كذا إلى
كذا وأنجز كيت وكيت وأخفق وأخطأ، شأنه شأن كل البشر، وإنما هو مع ذلك كله فرد
تاريخي أدرك ثوابت وطنه وقوانين حركته التاريخية وسعى لتثبيتها وتعظيم فاعليتها
والبحث عن أبعاد جديدة لتأكيد شرعيتها الأخلاقية والتاريخية.
وقبل أن أستطرد في
مفهوم الفرد التاريخي ومضمون ما قدمه ناصر للثوابت الوطنية المترسخة منذ الأزل
وتستمر للأبد، أود أن أشير إلى أن العالم عرف أكثر من منهج اتبعته دول بعينها
لإضفاء الشرعية على ما ترى أنه ثوابتها وأمنها الوطني.. فالولايات المتحدة في فترة
ما بعد الحرب العالمية الأولى أذاعت مبادئ ويلسون الأحد عشر، وبعد الحرب العالمية
الثانية وفي الخمسينيات كان ملء الفراغ، والآن مثلا واستمرارا لما كان مع كارتر
وريجان ومن بعدهما جاءت حكاية الأصولية المسيحية الصهيونية والملك الألفي، أي أن
المسيح سيعود ليحكم العالم ألف سنة بالخير والمحبة ومقاومة الشر، ولن يعود إلا إذا
تم بناء الهيكل في القدس "أورشليم" وتعاظم وجود دولة إسرائيل، وتلك مع
أمور أخرى هي الأسس التي تعتمدها الكنيسة الإنجليكانية المشيخية!
وعند النازية كان
الغطاء هو تفوق الجنس الآري ونظرية المجال الحيوي، ولدى فرنسا مثلا كانت وحدة
الانتماء الثقافي الفرانكفوني.. أما جمال عبد الناصر فقد مضى باتجاه شرعنة ثوابت
الأمن القومي المصري بنظرية ومنهج التحرر الوطني والانتماء القومي، وأبدع رؤية دور
مصر في دوائر خارجية متصلة ببعضها هي الدائرة العربية والدائرة الإفريقية والدائرة
الإسلامية، وكان ذلك مع قيام الثورة عند مطلع الخمسينيات، ومع التطورات المختلفة
تم توسيع الدوائر لتشمل دائرة التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية! واتصل
بذلك السعي للوحدة الإفريقية وللوحدة العربية على أسس إنسانية، تتضمن وحدة
الانتماء ووحدة المعاناة وتشابك بل تطابق الآمال، عدا عن الأبعاد الثقافية
المشتركة.. وهذا هو ما أعتقد أنه سيبقى مستمرا لعقود طويلة، بل إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها.
ثم إنه طالما بقيت
قضايا الاستقلال الوطني والدور الإقليمي والدولي، والتنمية الشاملة المستدامة
وتعظيم الاقتصاد الوطني والسعي لمزيد من حرية الإنسان، وتشابك المصالح المصرية مع
العمقين العربي والإفريقي، وحتمية المضي في طريق مختلف عن تلك الطرق السارية غربا
أو شرقا، فإن المنهج الذي أسس له جمال عبد الناصر واستقى أسسه من استقراء ما أسميه
قوانين الحركة التاريخية الضابطة للعلاقة بين المكان والزمان وبين البشر في مصر..
ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، العلاقة الجدلية بين النهر وبين البحر، إذ ثبت
عبر العصور أن قوة مصر تأتي من تماسك شعبها وتوازن مصالح فئاتها الاجتماعية، ولا
يحدث التماسك والتوازن إلا بضبط حركة النهر فيضانًا وقحطًا، وتنظيم علاقة الناس به
وإلا تشتعل الفتن والاقتتال على مياهه في بلد يبدو كواحة محاطة بمحيط صحراوي هائل
لا يرحم، وإذا حدث ذلك مع النهر فإن مصر تنطلق بدورها إلى محيطها وتمنع البحر.. أي
القادمين الطامعين في خيراتها من الوصول إلى قلبها لتفتيتها وتفكيكها، وكان كل
قادة مصر العظام- أي الأفراد التاريخيين- ترتبط عظمتهم بالسعي للسيطرة على النهر
بالسدود والخزانات والقناطر ومد شبكات الري، وهذا ما عرفناه وكان نموذجا له في العصر
الحديث محمد علي وأسرته بالقناطر الخيرية وبعدها خزان أسوان، وجمال عبد الناصر
بالسد العالي! وهناك العديد من قوانين الحركة التاريخية لا يتسع المجال للتفصيل
فيها، ومنها العدل الاجتماعي وتفاعل المكونات الثقافية التي منها العقدية الدينية
والفلكلور وهلم جرا.
سيبقى من جمال عبد
الناصر لآماد بعيدة منهجه وإضافاته لتفعيل الثوابت الوطنية وإضفاء شرعية إنسانية
على السعي لتطبيقها.
نشرت
في مجلة الأهرام العربي بتاريخ 11 يناير 2018.
No comments:
Post a Comment