Wednesday, 1 May 2019

الكابوس العثمانلي





لست من أنصار إسقاط المعايير المعاصرة على ظواهر أو أحداث تاريخية قديمة أو وسيطة، أو حتى تمت ووقعت في مطلع ما يعتبره المؤرخون تاريخًا حديثًا، أي مقترنًا بعصر النهضة الأوروبية وما بعده.. لأن لكل ظاهرة ظروفها الموضوعية المكانية والزمانية والفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، التي أحاطت بها وحكمتها.. وما أحاول الاجتهاد ضمن مساحته هو قراءة السياق التاريخي والتقاط مفاصل العلاقات بين الظواهر، التي حدثت في زمن واحد أو متقارب، مثلما التقطت الزمن المشترك بين بدايات عصر النهضة الأوروبية في شمال إيطاليا وبين الغزو العثماني للشام ومصر، وأشرت لذلك في مقال الأسبوع الفائت.

إنني أعلم أن هناك من يرى في التحرك التركي العثماني حتمية تاريخية في ضوء تحرك قوى أوروبية باتجاه المنطقة "أرض الإسلام"، وفي ضوء عدم قدرة الماليك على صد ذلك المد الاستعماري الأوروبي "الصليبي"– حسب رأيهم– وعليه كان لابد من قوة تستطيع صد تلك الهجمات وتستطيع فرض سلطانها على المنطقة بالطريقة التي كانت عليها الخلافتان الأموية والعباسية، والأهم هو حماية الحرمين الشريفين، التي كانت ضرورة لازمة لإضفاء الشرعية على من "يرث" الخلافة، حتى وإن لم يعرف من الدين سوى الشهادتين، ومن العربية سوى البسملة!

ولقد لفت السفير المرموق، والمثقف صاحب الدور الكبير في بناء وإعمار وإدارة المكتبات العامة في مصر المعاصرة، عبدالرؤوف الريدي، إلى أن مقال الأسبوع الفائت يفتح الباب لمناقشة ثقافية عامة واسعة النطاق حول معالم النهضة، خاصة العمرانية في العصر المملوكي، وهو ما عطله الغزو العثماني، الذي عمل على نزوح أو تجريف الخبرات الفنية والتقنية المصرية إلى الأناضول.. وهي مناقشة لابد أن تعتمد على ما قدمه أساتذة أفذاذ، درسوا الحقب المملوكية عبر تاريخ مصر بعد الغزو العربي، وهناك عشرات المصادر والمراجع التي اتصلت بالحقب المملوكية وعالجت مكوناتها السياسية والحربية والاقتصادية، وأيضًا الحضارية والثقافية، بل إن هناك روادًا من أساتذة الجامعة المصرية تخصصوا في العمارة الإسلامية، التي ازدهرت وبلغت ذراها في عمارة المساجد، ولعل ما ألفته الدكتورة سعاد ماهر يعد نموذجًا رائعًا في هذا المضمار.

لقد تمخض زحف من عرفوا في تاريخ أوروبا بالمتبربرين أو الهمج من قبائل الاستبس عن تطورات حضارية وسياسية امتزجت فيها المعالم الرومانية مع القوطية وغيرها، وحل محل التكوين الإمبراطوري الروماني تكوينات أسست لما عرف باسم الدولة الوطنية، التي انبثق منها فيما بعد عصر النهضة، أما زحف القبائل المغولية منذ التتار إلى الأتراك السلاجقة والعثمانيين فلم يتمخض عن إضافات أو تطورات في مضمار الحضارة والثقافة والمدنية، وربما كانت الأهمية القصوى لمسألة الحرب والتوسع والدفاع عن حوزة الديار الإسلامية هي المضمار الذي ظهرت فيه مواهب الأتراك العثمانيين، ولن نستطيع أن نمحو بممحاة تلك القرون من تاريخنا، وما نستطيعه هو قراءتها قراءة محكومة بالقواعد العلمية، ونستخلص دروسها التي منها أن الترسانة العسكرية والعسف، وإن تغطى برداء الدفاع عن الإسلام وأرضه، وعن الحرمين الشريفين، أمور لا تكفل الاستمرار، ولا تحقق بناء الصروح الحضارية والثقافية، التي تضاف لما أنجزته البشرية.

وربما يقول قائل إن الأتراك العثمانيين تركوا ما يذكر في مجالين أحدهما ما أرساه سليمان القانوني، وثانيهما ما خطط له وشرعه محمود الثاني، وهو التنظيمات العثمانية، وهذا أمر غير منكور، ولكنه لا يرقى إلى أن يصبح عنوانًا لما يمكن أن يحمل لافتة "الحضارة والثقافة العثمانية"!

إننا لا نتجنى على الأتراك، عثمانيين أو غير عثمانيين بمناسبة سياسات ومواقف الإدارة التركية الحالية بقيادة أردوغان، وهي سياسات ومواقف حاولت وتحاول تقديم نفسها للعالم الإسلامي بصفتها الحامية الغيورة على الدين والفقه والتوجهات الإسلامية، فيما الحقيقة أن الأمر صراع رهيب على ما يعتقدون أنه ملء لفراغ المنطقة، وتنافس بين إيران وتركيا والدولة الصهيونية، يذكرنا بالتنافس بين الصفويين وبين الأتراك وبين الدول الاستعمارية، التي كانت متجهة لفرض نفوذها منذ القرن الثامن عشر! ولذلك فعندما بدا أن مصر تستعيد ألق وجودها وتشرع في استعادة دورها وفق فهم مغاير لآليات التفاعل الإقليمي والدولي يحميها من مصير تجربتي محمد علي وجمال عبدالناصر، جن جنون أنقرة وبدت ملامح البارانويا "جنون العظمة التاريخي التركي" تظهر، كي لا يخلو الخطاب السياسي والإعلامي لأردوغان من إشارة إلى "الضربات العثمانلية"، وإلى أن الآستانة حكمت مصر وغيرها لقرون طويلة.

وعود على بدء فقد شاءت التطورات التاريخية أن تستفيق أوروبا من إغماءة عصورها الوسطى المظلمة، وتشرع في التأسيس للنهضة، انطلاقًا من شمال إيطاليا، في الوقت نفسه الذي كنا فيه في صحوة اقتصادية ومعمارية وحضارية، ثم جاءنا الكابوس التركي العثمانلي، ودخلنا في إغماءة استطالت أورثتنا تخلفًا مازلنا نحاول التخلص منه.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 1 مايو 2019.

No comments:

Post a Comment