ترددت كثيرًا قبل أن
أقدم على الكتابة في موضوع الثقافة التاريخية، وكيف هي أساس الوعي بحركة التاريخ
ودروسه، وأن السعي وراء استقاء المعلومة من المصادر والمراجع ليس أمرًا مزاجيًا،
وإنما هو من صميم تلك الثقافة التي يستطيع من يحوزها أن يتعامل مع تلك المصادر
والمراجع تعاملًا نقديًا وفق أصول مناهج البحث في علم التاريخ. ثم إن البعض كان
ومازال يعتبر أن الكتابة الصحفية تختلف عن الكتابة الأكاديمية، ويرى أن الأولى، أي
الصحفية، وبحكم أنها "كلام جرايد" لا تستدعي أية صرامة منهجية، ولا
تستلزم التدقيق المؤكد في المعلومة، ولا يتعين أن تكون تحليلية فيها مناقشة للقضية
المطروحة وفق الأسس المعروفة عند المعنيين بدراسة التاريخ.
ترددت لأن البعض قد
يعتبر مراجعة وتصحيح معلومات كتبها صحفيون وكتاب معروفون تصيدًا متعمدًا يبغى
إحراجهم، خاصة إذا كان في الأمر شبهة اختلاف فكري وافتراق سياسي، وربما يظن آخرون
أن من يقوم بمهمة تتبع الأخطاء وكشفها وذكر الصحيح، يفعل ذلك لكي يبدو أنه قيم على
الكتابة التاريخية فيشبع ميولًا استعراضية مرضية تسكن جوانحه!
وما حسم هذا التردد
وجعلني أقدم على تناول الأمر، هو مناقشة مع من يمكن أن أصفه بالعين الفاحصة
الخبيرة المدققة الواعية، الأستاذ الدكتور علي بركات، أستاذ التاريخ الحديث
والمعاصر، وأحد أبرز رواد التاريخ الاقتصادي الاجتماعي في مصر، وقد تولى الأستاذية
والعمادة لفترة طويلة، وعرف عنه طول النفس في الدراسة حتى إنه يظل السنوات الطوال
يجمع المادة، ويعمل أدوات المنهج العلمي، ويحلل ويستخلص الخلاصات في الموضوع الذي
يبحثه، ويعد رائدًا متفردًا أيضًا في الدراسات الخاصة بالريف والفلاحين والملكيات
الزراعية، ودور كبار الملاك في الحياة السياسية، ثم ثورات الفلاحين في العصر
الحديث.. وقد تفضل الدكتور بركات فلفت نظري من قبل حول ما كتب عن دور مصر في الحرب
العالمية الأولى، ولم يفلت أن يلفت نظري أيضًا إلى ما كتبه الأستاذ صلاح منتصر في
مقاله اليومي حول ثورات المصريين، إذ نشر في عمود "مجرد رأي" يوم 11
مارس 2019 تحت عنوان اختلاف وتشابه الثورات ما نصه: "الثورة الأولى كانت يوم
الجمعة 9 سبتمبر 1881 عندما اقتحم عدد من الضباط والجنود المصريين ثكنات قصر
النيل، وحرروا الأميرالاي أحمد عرابي، الذي تم حبسه بقرار من وزير الحربية عثمان
رفقي، وهو من أصل شركسي، كان يعادي الضباط المصريين...."، وقد وقع خلط عند
الكاتب بين ما تسميه المصادر التاريخية "واقعة قصر النيل" وبين
"مظاهرة عابدين".. فتداخلت المعلومات، لأن واقعة قصر النيل حدثت يوم 1
فبراير 1881، أما مظاهرة عابدين فحدثت يوم 9 سبتمبر 1881، وفي الأولى وقعت أحداث
القبض على عرابي وزميليه علي فهمي وعبدالعال حلمي بأمر من عثمان رفقي الوزير
الشركسي، ووصل الخبر إلى القائمقام محمد عبيد قائد الآلاي الأول بقشلاق عابدين،
فأمر جنوده بالهجوم على الثكنات وحرروا عرابي ورفيقيه، وهرب رفقي بالقفز من إحدى
النوافذ.. إلى آخر ما حدث!.. أما ما تسميه المصادر بمظاهرة عابدين، فقد وقعت في 9
سبتمبر 1881 وتلك قصة أخرى.
وفي
"الأهرام" أيضًا وبتاريخ 18 فبراير 2019 كتبت الأستاذة وفاء محمود
مقالًا بعنوان "مراحل الصدمة لاستعادة مشروع مينو العظيم"، وفيه قدمت
تحليلًا عن العلاقة الجدلية بين المصريين وبين حملة بونابرت المعروفة بالحملة
الفرنسية.. ومن الأخطاء الشائعة التي لا يقع فيها دارس تسمية بونابرت بنابليون في
فترة الحملة على مصر.. ومن الوارد أن نختلف في تقييم دور الحملة وأثرها على مصر
والمنطقة، وقد يصل الاختلاف إلى حد الصدام بين الرؤى المتفاوتة وكل منها يعتمد
منطقًا يراه محكمًا ومقبولًا، إلا أن الاختلاف لا يكون في المعلومة الموثقة، حيث
ختمت الكاتبة مقالها بفقرة عن محاولات النهضة في مصر، بعد أن تخلصنا من متلازمة
التناقض بين الحفاظ على الهوية وبين التأثر بالثقافة الأوروبية، ثم أشارت إلى ما
أسمته "مشروع مينو العظيم لتحديث مصر"، ولم تكن مصادفة أن يتواصل الدكتور
بركات معي في شأن حكاية مشروع مينو لتحديث مصر، لأن للرجل دراسة علمية موثقة أراها
شديدة الأهمية، نشرت في المجلد 59 من مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة 4 أكتوبر
1999 بعنوان "أصول إصلاح نظام حيازة الأرض في مصر الحديثة"، وللدراسة
ملحقان أولهما "إعلان من مينو إلى سكان مصر.."، ويبدأ ببسم الله الرحمن
الرحيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله.. من مينو القائد العام للجيش الفرنسي إلى
سكان مصر.. ثم شرح للنظام الضرائبي.. وتكرر فيها استخدام العبارات الدينية، وتضمن
تهديدًا عنيفًا بالعقاب لمن يتهرب أو يقاوم أو يثور.. والملحق الثاني بتاريخ 20
يناير 1801 وفيه تحديد شديد الدقة للضرائب التي ستدفع للفرنسيين، حسب نوعية الأرض
وعدد الأفدنة في كل قرية وتوقيت الدفع، ونوع المحاصيل.. إلى آخره.
وتوضح الدراسة العلمية
الموثقة أن مشروع مينو استهدف أساسًا زيادة الموارد المالية للسلطات الفرنسية،
وحسب الدكتور بركات فإن مينو كان من أنصار مصادرة أملاك الملتزمين، وتقدم بمشروعه
الخاص بحيازة الأرض، والذي أطلق عليه المشروع العظيم، وفي البداية حاول مينو تنظيم
عملية جباية الضرائب بشكل يضع حدًا للاختلاسات التي كان يقوم بها الصيارف
الأقباط.. وتؤكد الدراسة أنه "يلاحظ أنه على الرغم مما تحويه الوثائق
الفرنسية المعلنة فإن معاناة الفلاحين المصريين، في ظل الحكم الفرنسي، لم تكن أقل
من معاناتهم في ظل الحكم المملوكي العثماني السابق عليه".
وعليه فلم يكن للجنرال
مينو مشروع لتحديث مصر، بقدر ما كان مشروعه لزيادة موارد الحكم الفرنسي لمصر، مما
يؤكد أن ملة الاستعمار واحدة، سواء كان عثمانيًا أو فرنسيًا أو إنجليزيًا.
نشرت
في جريدة الأهرام بتاريخ 2 مايو 2019.
No comments:
Post a Comment