من رذائل العبد لله اكتفاؤه بأن يقرأ وحده تعقيب السادة القراء على ما
يكتب، والعزوف عن نشرها، خاصة إذا كانت في إطار المدح والإطراء، أما ما يحتوي
اختلافًا وانتقادًا فإنني أنشره، ليس لأنني معجون بالديمقراطية ولكن لأنني أكثر من
معجون بالاحتفاء والترحيب بأي اشتباك، حيث أعتقد أنه يُعطي الكتابة والحوار نكهة
حريفة تعوّد عليها أولاد البلد مدمنو الكشري والفلفل المقلي مع الباذنجان والآخر
الأحمر المطحون فوق صحن القريش بالطماطم!
واليوم أتخلص- ولو مؤقتًا- من تلك الرذيلة، وأنشر بعضًا من تعقيبات السادة
القراء على مقال الأسبوع الفائت، الذي كان عنوانه "لذا لزم التصحيح"،
وفيه كتبت عن ضعف الثقافة التاريخية، وعن الخلط والخطأ في المعلومات، وضربت مثلًا
بمقال كتبه الأستاذ صلاح منتصر، ومقال آخر كتبته الأستاذة وفاء محمود، وأبدأ
بتعقيب الأستاذ الدكتور محمد فراج أبو النور ونصه: "مقال بالغ الأهمية يضع
اليد على خلل جسيم تعاني منه الصحافة المصرية.. ذلك الضعف البالغ للثقافة
التاريخية، إن لم يكن الجهل التام بها.. وأعتقد أنه تجسيد لخلل أكبر وأوسع
انتشارًا هو عدم المبالاة بالحقيقة أصلًا.. بل وتعمد تشويهها أو قتلها قتلًا، وبدم
بارد تمامًا، في كثير من الأحيان تحقيقًا لهوى سياسي أو شخصي.. والمؤلم أن هذا
يحدث في أغلب الأحيان على أيدي بعض الكتاب، الأمر الذي أدى بالفعل إلى تشويه وعي
شعبنا بتاريخه، وهي جريمة كبرى.
وعلى سبيل المثال، وبالنسبة للأستاذ صلاح منتصر نفسه، فإن خلطه بشأن تفاصيل
الثورة العرابية، يبدو راجعًا إلى نقص في المعرفة فحسب.. ولكنه يتضاءل إلى جانب
أخطاء كبرى فيما يكتبه عن ثورة يوليو 1952 وإنجازاتها الكبرى كالتصنيع والسد
العالي، أو عن شخص جمال عبد الناصر وأسلوب حكمه، الذي لا ننزهه عن الأخطاء، لكننا
لا نقبل اختراع الأخطاء والخطايا وإلصاقها به دون اعتبار للحقيقة ووقائع التاريخ.
التجني على الحقيقة نجده أيضًا في كتابات الأستاذ منتصر وغيره كثيرون عن
مزايا العهد الملكي، وعهد السادات، اللذين يقدمهما كعهدين ذهبيين!
ومن الأمثلة الفادحة في هذا الصدد قولهم إن الاقتصاد المصري في العهد
الملكي كان أقوى منه في عهد الثورة، وإن مصر كانت دائنة لبريطانيا العظمى بـ400
مليون جنيه إسترليني، متجاهلين أن هذه الديون كانت مقابل استخدام جيوش الحلفاء
لموانئ وطرق البلاد ومياهها وكهربائها... إلخ وقت الحرب العالمية الثانية– وهو ما
لم نكن نملك أن نرفضه– ولم تكن نتيجة تعاملات اقتصادية متطورة.
ومن الأمثلة الفادحة أيضًا قولهم إن الإصلاح الزراعي– الذي طبقته ثورة
يوليو– أضر بالاقتصاد الزراعي للبلاد، لأنه أدى لتفتيت الملكية الزراعية! مع أن
استغلال كبار الملاك الزراعيين للأرض كان يتم بأكثر الطرق تخلفًا، ولم تكن أساليب
الزراعة الرأسمالية الحديثة مطبقة إلا في أراضي عدد محدود للغاية من كبار الملاك.
ويقودنا الحديث عن الأراضي الزراعية إلى ردكم على الكاتبة، التي تحدثت عن
مشروع مينو العظيم.. وإلى ضرورة إلقاء الضوء على نطاق جماهيري واسع على علاقات
ملكية وحيازة الأراضي الزراعية في مصر في القرن التاسع عشر، من إجراءات محمد علي،
إلى اللائحة السعيدية، إلى لائحة المقابلة التي أصدرها الخديو إسماعيل 1876..
وتأثيرها على علاقات ملكية الأراضي وبيعها وشرائها... إلخ.. فهذه كلها أمور
يكتنفها ظلام وجهل شديدان، مما يؤدي إلى قراءة شديدة التشويش لتاريخ المسألة
الزراعية في مصر، وتاريخ بلادنا في القرن الـ19 والـ20 عمومًا.
ومع ذلك نجد كثيرين يفتون في هذه الأمور الخطيرة باجتراء مخيف على الحقيقة،
وعلى وقائع التاريخ.
مقالكم بالغ الأهمية، الذي أثار قضية خطيرة، يسلط الضوء أيضًا على مسؤولية
المثقفين الوطنيين التنويريين الغيورين مثلكم ومثل المؤرخ الكبير الدكتور علي
بركات عن توضيح الحقائق بشأن هذه القضايا التاريخية الكبرى، وتبديد ظلمات الجهل
العام تقريبًا عنها.. وأنتم لها.. ولكم تحياتي الحارة وعميق تقديري ومودتي".
ثم أثني بتعقيب من الأستاذة الخبيرة الدولية نهال حسن القويسني، التي كتبت
ما نصه: "أخشى ما أخشاه يا أستاذنا أن السطحية وعدم الدقة أصبحا السمة
الغالبة على كافة المستويات، نتيجة تعدد وتشعب وسائل الحصول على المعلومات، وعدم
التدقيق في المصادر المستقى منها، بالإضافة إلى الافتقار إلى المعايير العلمية
والمنهجية في التأكد من سلامة المعلومات".
ثم أتوجه بالشكر للسادة الأساتذة والدكاترة فوزي سليمان وسوما الحارثي
ومحمد سيد أحمد ومصطفى الجمل ومحمد عبد الفتاح محمد، وأكرم السعدني، وسليمان شفيق
ونصر القفاص وإيمان إمبابي، الذين بادروا بكتابة تعقيبات تلغرافية سريعة، ولبقية
السادة الذين تجاوز عددهم المائة، ممن قرأوا واستحسنوا واكتفوا بالإشارة دون
العبارة.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 9 مايو 2019.
No comments:
Post a Comment