Thursday, 16 May 2019

الأساس والمداميك في بناء الإنسان





في فترات بعينها تعلو الأسئلة ويثور النقاش ويتكاثر المفتون حول مسألتي الهوية.. والشخصية، وترتبط بهما مسألة ثالثة هي بناء الإنسان، وقد دعيت أكثر من مرة في أكثر من مكان ومن جهات متعددة للمشاركة في أحاديث الهوية.. والشخصية وبناء الإنسان، واكتشفت أن الأمر يحتاج إلى "تحرير مصطلحات" كما يقول علماء الفقه، لأن ثمة خلطا بين الهوية وبين الشخصية وثمة فصلا تعسفيا بين الاثنين وبين عملية بناء الإنسان.. واكتشفت مؤخرا– من عدة أيام– أن البعض عن جهل وغفلة جعل من مسألة الهوية علكة "لبان" يعلكها في المناسبات الاجتماعية، فإذا حاولت أن ترده عن جهله وتفيقه من غفلته ظل يحرك فكيه بغير مضغ ولا بلع ولا توقف، اللهم صوت فرقعة العلكة "اللبان"، وقد كنا في لقاء اجتماعي رمضاني يحضره بعض الإخوة العرب من جنسيات مختلفة، وإذ بموظف مصري في أحد فروع أحد البنوك العربية يفتي أن أزمة مصر هي ثورة 1952 التي كنا– حسب كلامه– قبلها لدينا هوية.. وبعدها بلا هوية، وفاته أنه- دون أن يدري- يسيء إلى مضيفيه من العرب! ولما سألته عن معنى الهوية وعن علامات صحة ما يحدث عنه بدا وكأنه فقد السمع!

في فترات الانكسار والتعثر يثور سؤال الهوية "من نحن؟!".. وسؤال الشخصية "ما سماتنا؟!"، وتراه يتردد أيضا في فترات التحول، ويعلو كذلك في أوقات الانطلاق ومجابهة التحديات.. أما في فترة الاستقرار والانتظام في الحياة والانخراط في البناء والنجاح في الاستجابة للتحديات فإنه يرتد إلى خلفية الذهن يكمن فيها ساكنا، إلى أن يحدث المثير فيندفع للمقدمة!

إن تتبع مسار السؤال عبر تاريخنا الحديث والمعاصر يثبت ما أذهب إليه، ولعل محطة يناير 2011 وما بعدها تثبت أن السؤال قد ثار وتعددت الإجابات لدرجة التصادم بين التوجهات، وما زال مثارا وموضوعا لمعظم الندوات واللقاءات التي تنعقد خاصة فيما يسمى "الصالونات الثقافية".

ولقد أعلن أن المدة المقبلة في الفترة الرئاسية سيكون محورها هو بناء الإنسان الذي إذا تخيلناه صرحا له أساسات ومداميك وملاط "مونة" وطلاء وواجهة وديكورات، فإن الأساس هو مكونات الهوية والمداميك ومعها الملاط هي العلاقة بين تلك المكونات التي تشمل المعطيات الجغرافية والإثنية والتاريخية، أما الشخصية أي السمات فهي ما تبقى من طلاء وواجهة وديكورات تتعامل معها عين وعقل الرائي، وعليه فإنني أذهب إلى أن أول خطوة في بناء حقيقي للإنسان- بعيدا عن حملات الدعاية ومندبات الاعتراض "عمال على بطال" هي التركيز على تمتين الأساسات وضخ كل ما يؤدي إلى تثبيتها، وإلى ترميم المداميك وسد ما اعتراها من تآكل في "المونة" التي تربطها ببعضها، وبغير ذلك فإن أي طلاء وديكور سوف يسقط مهما كانت درجة لمعانه وتنسيقه، ومهما كان حجم ما أنفق عليه، إذ يكفي قليل من ماء جوفي مشبع بالأملاح والشوائب يزحف صاعدا من الأساسات ومن المداميك ليشوه الطلاء ويهدم الديكور. ولقد كان التفاعل بين ثوابت الجغرافيا "النهر.. والوادي.. والدلتا.. والصحراء.. والبحر" وبين ما استقر عبر الدهور من عناصر التكوين الديموغرافي، التي توزعت بين هجرات سحيقة جاءت من جنوب وشمال شبه الجزيرة العربية واختلطت مع أجناس أخرى إفريقية، وبين هجرات جاءت من الغرب من هضبة التبتسي، وكل ما يحمل معه من سمات حضارية وثقافية، إضافة للتفاعل بين ذلك كله وبين ما كان واستمر يستجد من أحداث شهدتها العلاقة بين "البحر"– أي القادمين من خارج المحروسة– وبين "النهر" أي أهل الأرض المستقرين حول النيل، تفاعلا خلاقا مكن مصر من التماسك والتوازن والقوة ومن ثم التأثير في دوائر محيطها الخارجي، مثلما هي زهرة اللوتس التي تتفتح باتجاه محيطها وبسبب عوامل كثيرة كانت الأساسات والمداميك في بناء الإنسان المصري تتأذى أو تتصدع، فتنهار الديكورات والطلاء، وكان أبرز تلك العوامل هي أن ينشأ صدام وتنازع ومن ثم افتراق بين عناصر تكوين الهوية وملامح الشخصية، وجاءت فترات تم التركيز فيها على العنصر المصري القديم المسمى "فرعونيا"– وهي تسمية مغلوطة– واعتباره دون غيره هو الأساس الوحيد، وهو الذي ساد الدنيا واخترع الآخرة، وأنه علم البشرية إلى آخر المنظومة التي يسهب في تضخيمها من هم معادون لبقية عناصر التكوين الهللينستية والمسيحية والعربية الإسلامية والحديثة والمعاصرة!

وفي المقابل كان هناك من يركز على المكون القبطي المسيحي، يقابله من يركز على المكون القبطي الإسلامي والعربي، ومن لا يزال يركز على حتمية أن تكون سمات الشخصية متوسطية غربية اتصالا بالجذور الهللينستية أو "الجريكورومانية"!.. وكلما حاول من يسعى للفهم الصحيح أن يضع كل هذه العناصر في بوتقة الانصهار المصري لتضحى سبيكة واحدة متينة وجميلة قيل إنه تلفيق ولا بد من الانحياز لهذا أو ذاك، ثم يبدأ التقاط أحداث ووقائع سلبية يستند إليها من يريد أن يحذف أي مكون من تلك المكونات الأساسية.. وتظهر "القطط الفطسانة" في تاريخ مصر القديم.. وفي الغزو القادم من الصحراء العربية يحمل البداوة والتصحر وانعدام التحضر وضحالة الثقافة، وفي الاستعمار الإغريقي والروماني الذي كان حلقة قديمة من الاستعمار الحديث الفرنسي والبريطاني وهلم جرا لنكتشف في النهاية أننا بلا جذور من أي نوع!

خلاصة القول إن بناء الإنسان في مرحلتنا هذه يرتبط بتمتين الأساس والمداميك، وبغير ذلك يبقى كل طلاء وأي ديكور محض قشرة تسقط من أول زخة مطر.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 16 مايو 2019.

No comments:

Post a Comment