Wednesday, 8 May 2019

شهر اللقمة الطرية



كل شهور السنة عدا رمضان، كانت ستي لأبي الحاجة حليمة تنتظر قبل شروق الشمس، فراغ من عليها الدور في كنس ورش مدخل الدار وصحنها حتى أمام السلم الصاعد للسطوح وحول "بيت الراحة"، فتأمرها بتنفيض الدكة الخشبية الموضوعة على شمال المدخل، لتفرش عليها حصيرة الصلاة، وتنتظر حتى تسمع ونسمع نحن العيال معها الصوت الجاف، رغم أنه صوت امرأة: "يا أهل الله" تنطق بدون ألف وهمزة "يهل الله"، فترد ستي: "إيوه الله.. اتفضلي.. ادخلي"! فتدخل خيرات ابنة سيدنا عبد المنعم بحري صاحب الكتاب – تاء مشددة – التي تحفظ القرآن الكريم، وكانت تساعد والدها في تحفيظ العيال. وتجلس القارئة متربعة على الدكة مرتدية الجلباب الأسود وعلى رأسها الطرحة من فوق "العصابة" أو "الشُقة" المربوطة بإحكام على الرأس والشعر، وتتعوذ من الشيطان الرجيم، ثم تبسمل وتبدأ في قراءة الراتب اليومي.. وتختم.. وستي قاعدة منتبهة واضعة رأسها على كفها الذي يظهر على ظهره الوشم الأخضر.. وهكذا طول العام ليتلقى سيدنا "المِسانِية"- أي الأجر السنوي للمهمة- وعادة ما يكون موزعا على مواسم حصاد المحاصيل، فتكون عدة كيلات من أي محصول في أوانه، وكان أكثرها دقة "الكيلة العباسي" المختومة من مصلحة المكاييل.. ومع الحبوب من الفول والقمح والذرة والأرز وأحيانا اللوبيا الجافة، تكون الجودة من الموجود من الحليب والرايب والقشطة والطيور.. وخلافه.. ثم يأتي رمضان لتتحول القراءة من صباحية إلى مسائية، بعد التراويح يأتي المقرئ أو أحد معاونيه من صغار الحفظة ليرتل آيات الذكر الحكيم كل ليلة ويتناول السحور.. وهنا كانت كل الموبقات البريئة- أي غير قطعية التحريم- تتم.. ذلك أن الكبار المتزوجين كانوا لا يصمدون للسهر متيقظين حتى السحور، فيتسربون واحدا وراء الآخر للانتقال من الدوار إلى الدار، ويخلو الجو لشياطين الإنس، فتخرج "الجوزة" من مكمنها وراء كنب الدوار.. وتبرز علب الدخان المكنة "الماكينة" واللف من وراء المساند، ويتقافز ورق الكوتشينة من جيوب الصديريات، وتبدأ أدوار الشاي مع المعسل والسجائر والكومي، ويترك القارئ مهمته بعد أن يكون قد قرأ عشرا أو ربعا واحدا والمفترض أن يقرأ ساعتين أو ثلاثا.. ثم لا بأس من هزار ثقيل، تكون "المساند والتكايات" هي سلاح الضرب فيه!

ثم كانت تلك الليالي في تلك السنين السحيقة تشهد مأساة من نوع خاص، إذ كانت تأتي "طفف" – أفواج – شعراء الربابة راكبين الحمير أو مترجلين من إحدى القرى المجاورة هي "البكاتوش"، لإحياء الليالي الرمضانية بالإنشاد الملحمي، حسب ما يحفظه الشاعر الذي كان يعرف العائلات الميسورة والأخرى المستورة ويدبج بعض الكلام المنظوم في مدح العائلة ورأسها.. ويا ويل الشاعر الذي كان يرميه حظه العاثر باتجاه دوار تركه الكبار للصغار "المعيلة" في ليل رمضان.

وكان هناك نوع من المترددين على القرى في الأيام المفترجة، ليس شاعرا يعزف على الربابة وليس مداحا يمسك الدف ويصيح "أنا أمدح اللي قال له المولى تعالى... يا كحيل العين أنا معطيك الرسالة".. وإنما هو رجل يرتدي زعبوطا صوفيا بقياطين قطنية سوداء، وعلى رأسه طربوش مغربي يتدلى منه زر طويل يصل حتى نهاية العنق من الخلف "القفا"، ويركب حصانا مطهما.. واسمه "المواوي"، وعندما يقترب من الدوار يقف ويهمز الحصان ليشب على ساقيه الخلفيتين ثم ينزل.. ويمضي به المواوي عدة أمتار يمنة ويسرة، ويتوقف بعد أن تكون كل الأنظار قد التفتت وركزت، ويبدأ في ذكر مناقب العائلة التي يقف أمام دوارها.. وكثيرا ما كان يعمد أصحاب الدار إلى إهماله لوقت طويل، حتى يمعن في التفنن في مدح العيلة وكبرائها، وبعدها ينفحونه مالا إن وجد أو زادا وزوادا من خيرات ربنا، وكان "المواوي" الذي يجد ما تلقاه شحيحا قياسا على الجهد الذي بذله في الحركة بالحصان وفي رص العبارات إياها، يرفع يديه إلى السماء ويصيح بأعلى صوته "الفاتحة لسيدي والي عليكم".. وحتى الآن أنا لا أعرف من هو سيدي والي، وهل هو ولي طايفة المواوية.. مثلما هناك أولياء لطوائف أخرى حتى اللصوص الهناجرية!

وفي ريف نواحينا كان الناس يعودون بعضهم البعض- أي يتناوبون الزيارات الرمضانية لسماع القرآن والمدائح النبوية- وتراهم مبتهجين، فيما الجنود المجهولون في كل هذا المهرجان هم النساء اللاتي يتعين عليهن مضاعفة الجهد للوفاء باحتياجات الصائمين.. إذ الرجالة الصايمين الشغالين في الغيطان يجدون فرصة للراحة والقيلولة تحت ظلال الأشجار وفي الهواء النقي الطلق وتتقلص ساعات عملهم، وما إن يعودوا إلى الدور فلابد من لقمة طرية ولابد مما "يعوص" – أي يلطخ - الأصابع من دهن لحم الظفر "الطيور" أو لحم الذبائح، وربما من سمن الفطير والقرص – جمع قرصة وهي خبز مستدير صغير يعجن من دقيق القمح واللبن والسمن أو الزبدة، وكلما كان خمرانا كان طعمه طيبا لذيذا – وإذا لم يجد الرجال اللقمة الطرية وخلافه، فمن الممكن أن تكون الغضبة المضرية التي بلا حدد، وقد تصل لقلب الطبلية بما عليها، ثم تكسير عظام من لم تقم بما هو مطلوب.. ومازال في دست رمضان بقية.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 8 مايو 2019.

No comments:

Post a Comment