Wednesday, 22 May 2019

في المسألة "العائضية"!





وجدت نفسي في متاهة من التعريفات عندما حاولت أن أجد تعريفًا محددًا لمصطلحات الذهن والعقل والنفس والدماغ، وتهت بين المعاني الاصطلاحية اللغوية وبين غيرها داخل دهاليز معاجم اللغة العربية وقواميس علم النفس والأحياء، ولم أجد وقتًا للذهاب إلى نسختي الإلكترونية (CD) للموسوعة البريطانية، التي كثيرًا ما كانت هي المنقذ من الشتات.. وأيضا الضلال! ولذلك قررت أن أكتب مباشرة أنني قلت في نفسي وفي ذهني وفي عقلي واستقر في دماغي أن لا داعي للكتابة في موضوع عائض القرني، الداعية السعودي الذي أعلن اعتذاره عن منهجه وأفكاره ومضامينه السابقة، واقتناعه بمنهج وأفكار ومضامين جديدة تمثل صحيح الدين، هي ما يدعو إليه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.. قلت لا داعي إذ اعتذر الرجل على الملأ، ونقده في هذه الحالة- بعد ذلك الاعتذار وبعد الأطناب في شرح الأسباب على الناحيتين ناحية تركه للقديم الخاطئ واعتناقه للجديد الصحيح- قد يعد اصطيادا خاليا من الفروسية، لأنني أعلم أن ميدان الكتابة له تقاليد، لا تقل سموًا عن تقاليد ميادين القتال بالسلاح، أي الفروسية.

ثم حدث أن قرأت اعترافًا يتضمن اعتذارًا من شركة "بوينج" الأمريكية لصناعة الطائرات، تقر فيه- ولأول مرة- بوجود أخطاء في برنامج تدريبي للطيارين على جهاز محاكاة للطائرة 737، التي شهدت كارثتين جويتين أسفرتا عن وفاة 346 راكبًا.. وقالت الشركة: إن البرنامج المستخدم في أجهزة محاكاة الطيران لم يكن قادرًا على استنساخ بعض ظروف الطيران، خصوصا تلك التي أدت إلى الحادثتين! وعندها ثار موضوع الأخ قرني في ذهني، وانشغل به عقلي، واشتعل دماغي وحفزتني نفسي على أن أبحث عن مخرج من حكاية "الفروسية" إياها، ووجدت أن الأصل هو أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأن كل ذلك يصب في وجوب وحتمية إدانة ومقاومة النسخ المكررة من عائض القرني ومنتشرة بضراوة في ربوع مصر المحروسة، إذ هناك عائض اسمه برهامي وعائض اسمه الحويني وعائض اسمه حسان وعائض اسمه مخيون، وعائضون غيرهم لا تسعفني الظروف على ذكر أسمائهم ولا تساعدني وسائل الاتصال الحديثة على حصرهم!

كان عائض وكان وما زال هؤلاء يقولون إن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وأن من ابتدع بدعة فعليه وزرها ووزر من اتبعها ليوم الدين! وعليه فإذا كان الرجل قد اعتذر وتاب وأناب ونجا بنفسه مما اعتبره خطأ وغلطا وخلطا وخروجا عن صحيح الدين، فأين هو من مئات الألوف وربما الملايين ممن سبق أن غسل دماغهم على يديه، وما زالت أدمغة الألوف تغسل على يد برهامي والحويني ومخيون وحسان وممن على شاكلتهم من ذوي اللحى الحاخامية المنفرة!

إن من الممكن مقاضاة شركة الطيران وإجبارها على دفع تعويضات للضحايا، ولكن ضحايا قرني وبقية العصبة من الذي سيعوضهم؟ بل كم من الجهد يحتاج أمر تصحيح المفاهيم والمضامين والتخلص من أطنان الكتب والشرائط والأسطوانات والفلاشات التي ما زالت تنشر سموم المغالطات التي ليتها كانت في شأن آخر غير شأن العقيدة والعبادات والمعاملات؟!

لقد مات ضحايا خطأ شركة الطيران موتا عضويا وفارقوا الحياة الدنيا، أما ضحايا عائض وبرهامي ومخيون والحويني وحسان ومن على شاكلتهم، فهم كحاملي عدوى مرض نقص المناعة، دون أن يتمكن أحد أو جهة من معرفتهم وضبطهم، فصاروا خطرا حقيقيا– وليس محتملا– يهدد حياة المجتمع كله!

هل من الوارد مقاضاة عائض وأمثاله، وهل من الوارد تقديم مسوغات توبته واعتذاره إلى القضاء والجهات الرسمية ضمن دعوى أو مطالبات تتجه لإلغاء وجود أي حزب أو جمعية أو تنظيم أو مدرسة تعتمد الفكر والتوجه الذي تاب عنه القرني؟!

إن هناك من ينشغلون تمامًا وحتى النخاع بمسائل الديموقراطية والحياة النيابية والحقوق المدنية، ومثلهم منشغلون بدرجة أكبر باصطياد أي إنجاز للنظام الحالي والتقاط أي كلمة لتوجيه كل أسلحة الانتقاد والتهجم والتهوين، وكم أتمنى أن أجد من ينشغلون بما أظنه صميم المشكلة المعضلة التي نواجهها، وهي كيفية بناء الإنسان في مصر، وهو بناء يستدعي نسف ما استقر في وجدان الألوف من مغالطات المتسلفين الأشقياء الذين أصبحت غاية الدين عندهم حف الشوارب وإطالة اللحى.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 22 مايو 2019.

1 comment:

  1. مقال جيد في نقد الاعتراف بالخطأ بعد الكوارث الفكرية ،،، كان ب ودي ان يتسآل الكاتب !! عن لماذا اعتذر القرني ،،، وغيره ممن استضافهم المديفر في برنامج الليوان على قناة روتانا خلال شهر رمضان المبارك الفائت ،، حتى نفهم هل كان الاعتراف بالخطأ هو حقا ندم وحسرة على ماضي قد مضى !! او ان هناك ماهو خلف الستار ؟؟ مجرد تساؤل ،، وتحياتي لعملاق الصحافة السيد الجمال

    ReplyDelete