رمضان كريم.. ومن كرمه سعة الوقت
للمطالعة.. ومن المطالعة إعادة قراءة ما سبق وقرأه المرء من قبل.. وقد شاءت ظروف
الدراسة في قسم التاريخ، وبعدها الدراسات العليا، ومن بعدها العمل في مركز بحوث
الشرق الأوسط، ومن بعده السجن، تلته الترحيلة لبلاد الافرنج، وبعدها الإمارات،
ناهيك عن أن المهنة أصبحت الكتابة؛ أن أظل مجاورًا للكتب في الحل والترحال، وأن
أعاود القراءة في المصادر والمراجع حتى امتدت يدي مرة لا أعرف عددها لكتاب
"المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" المعروف بالخطط المقريزية، الذي
ألفه شيخنا تقي الدين أحمد بن علي المقريزي.. ولأنني قدمت إلى مكتبي قادمًا من محل
إقامتي في التجمع، وأمضي في طريق جديدة بالغة الجمال، تلك التي شقت بين محور
المشير وبين مطلع كوبري أكتوبر في امتداد رمسيس، مخترقة- على ما أظن- ما كان يعرف
بالجبل الأحمر! طريق يحق لكل منصف غير موتور أن يفخر بها كإنجاز وأيضا كجزء من
سلسلة طرق وجسور "كباري" ومطارات وموانئ وممرات مائية، كانت أفكارًا
لمشاريع ثم أصبحت واقعًا حيًا نعيشه لييسر علينا حياتنا وينقذ الوقت والوقود
والاقتصاد والأعصاب! وأعتقد أن تلك الإنجازات تحتاج كتابة أخرى لا تحفل بأي أمر
سواها!
المهم أنني ظللت لساعات أفكر في الجبل
الأحمر وفي المقطم، لأن المار في الطريق الجديدة بالغة الروعة بين القاهرة الجديدة
والعباسية يجد على يساره وهو قادم من التجمع تلال المقطم شاخصة، ومن فوقها مساكن
أظنها تحمل اسم مساكن الزلزال. وكانت المفاجأة عندما وضع كتاب الخطط نفسه في
متناول يدي ضمن مجموعة "رصة" كتب وضعتها لاحتمال القراءة في رمضان، إذ
وجدت عنوانًا في صفحة 354 من الكتاب طبعة مكتبة مدبولي 1997 هو "الجبل
الأحمر" وفيه يقول شيخنا المقريزي بلغة ومعلومات عصره: "هذا الجبل مطل
على القاهرة من شرقيها الشمالي ويعرف باليحموم، قال القضاعي: اليحاميم هي الجبال
المتفرقة المطلة على القاهرة من جانبها الشرقي وجبابها. وتنتهي هذه الجبال إلى بعض
طرق الجب، وقيل لها اليحاميم لاختلاف ألوانها، واليحموم في كلام العرب الأسود
المظلم.
وقال ابن عبد الحكم، عن سعيد بن عبيد،
إنه لما قدم مصر وأهل مصر قد اتخذوا مصلى بحذاء ساقية أبي عون التي في العسكر،
فقال: ما لهم وضعوا مصلاهم في الجبل الملعون، وتركوا الجبل المقدس (يعني المقطم)؟
وقال ابن عبد الظاهر: الجبل الأحمر،
ذكر القضاعي أن اليحموم هو الجبل المطل على القاهرة، ولا أرى جبلا يطل على القاهرة
غيره.
وقال البكري: اليحموم (بفتح أوله وإسكان
ثانيه)، قال الحربي: اليحموم جبل بمصر، وروي من طريق أبي قبيل عن عبد الله بن
عمرو: أنه سأل كعبا عن المقطم: أملعون؟ قال: ليس بملعون، ولكنه مقدس من القصير إلى
اليحموم.
وذكر البكري أيضا أن عابدا (بالباء
الموحدة والدال المهملة، على وزن فاعل) جبل بمصر قبل المقطم".
هكذا كان الجبل الأحمر ملعونا عند
القدماء، وكان المقطم مقدسًا، وهذا يحتاج إلى مزيد من شرح شيخنا المقريزي بلغة
ومعلومات عصره (ولد حوالي 1364 ميلادية وتوفي 1442 ميلادية)، وبعد أن يذكر أن أرض
مصر بأسرها محصورة بين جبلين، وأحدهما أعظم من الآخر، والأعظم هو الجبل الشرقي،
المعروف بجبل لوقا، والغربي جبل صغير- أي منخفض- وبعضه غير متصل ببعض، وأن جبل
لوقا في الشرق يعوق وصول ريح الصبا إلى مصر، يصل إلى ذكر جبل المقطم، الذي هو مقدس
في تراثنا المكتوب، وهنا نجد العجب في فيض المعلومات التي لا يمكن أن تثبت أمام
التمحيص العلمي الجغرافي والجيولوجي، لأنه يقرر مثلا أن الجبل المقطم أوله من
الشرق من الصين، حيث البحر المحيط، ويمر على بلاد الططر- التتار- حتى يأتي فرغانة
إلى جبال اليتم الممتد بها إلى نهر السند.. ثم يمضي مع المقطم في مساره إلى
العراق، حيث يتصل بجبل الجودي موقف سفينة نوح عليه السلام في الطوفان، ويستمر حتى
يمر بثغور حلب ويتجاوز حمص فيسمى لبنان، ويمتد إلى الشام حتى ينتهي إلى بحر
القلزم- الأحمر- من جهة ويتصل من الجهة الأخرى فيسمى المقطم، ثم يتشعب وتتصل أواخر
شعبه بنهاية الغرب، ويقال إنه عرف بمقطم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه
السلام.
ويستمر المقريزي فيقول إن جبل المقطم يمر على جانبي النيل إلى النوبة ويعبر
من فوق الفيوم فيتصل بالغرب إلى أرض مقراوة ويمضي مغربا إلى سجلماسة، ومنها إلى
البحر المحيط مسيرة خمسة أشهر! وبعدها يأتي ما هو أكثر طرافة إذ يستند المقريزي
إلى ما قاله إبراهيم بن وصيف شاه: (وذكر مجيء مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح إلى
أرض مصر): وكشف أصحاب إقليمون الكاهن عن كنوز مصر وعلومهم، التي هي بخط البرابي،
وآثارهم والمعادن من الذهب والزبرجد والفيروزج وغير ذلك، ووصفوا لهم عمل الصنعة
(يعني الكيمياء)، فجعل مصرايم أمرها إلى رجل من أهل بيته يقال له مقيطام الحكيم،
فكان يعمل الكيمياء في الجبل الشرقي، فسمي به المقطم من أجل أن مقيطام الحكيم كان
يعمل فيه الكيمياء، واختصر من اسمه وبقى ما يدل عليه فقيل له جبل المقطم، يعني جبل
مقيطام الحكيم.
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 23 مايو 2019.
No comments:
Post a Comment