Thursday 5 June 2014

القـاطــرة




أعترف بأن الملل والكلل أصابا كثيرين، أنا منهم، جراء الجدل حول أن التقسيم بين مدنى وبين عسكري، يقع ضمن منظومة تفتيت الوطن بالكلام والفعل عن مسلمين ومسيحيين.. وملحدين.. ثم عن مسلمين سنة ومسلمين شيعة، ثم عن سنة أشاعرة وسنة سلفيين وسنة صوفيين، وعن شيعة زيود وشيعة اثنى عشريين.. ثم عن سلفيين حزبيين وسلفيين جهاديين، ثم إخوان مسلمين بناويين وقطبيين وتلمسانيين.. إلى آخر ما هو ميكروسكوبى فى هذا الجانب الإسلامي.. أما الجانب المسيحى فهو موزع بين أرثوذكس وبين كاثوليك وبروتستانت وفرق أخرى فرعية.. بل إن الأرثوذكس تعرضوا بدورهم لمحنة التفتيت، عندما ظهر من يدعى ماكسيميوس، وزعم أنه بطرك الأرثوذكس الأثناسيوسيين، أما الملحدون فهم موزعون على الأقل من وجهة نظر آخرين إلى علمانيين كفرة وإن صاموا وصلوا.. وإلى ملحدين فلسفيا وملحدين علميا وملحدين عدميين!!.. ويستمر السياق لنجد تفتيتا عرقيا «مصريين ـ نوبة ـ أمازيغ وغيرهم»، وتفتيتا جهويا «قبلى وبحرى وسيناوى ومطروحي»، ولدرجة ذهاب البعض إلى التشكيك فى إخلاص بعض أهل تلك الجهات لوطنهم ولوحدة ترابه.. وها نحن أمام التقسيم الذى يصل إلى القلب بحكاية مدنى وعسكري.. لأن الجيش المصرى كان ومازال وسيبقى نموذجا للسبيكة المصرية المتجانسة الصلبة، التى فيها يبقى الكل فى واحد ويكون التنوع والتعدد مصدرا للقوة والصلابة والتقدم.

ولأننى لا أملك ولا أستطيع ولا أفكر فى منع الآخرين من أن يشطحوا بفكرهم وتصوراتهم إلى أى اتجاه، فإننى لا ولن أطلب مصادرة الذين يسعون لهذا التفتيت ويعملون بهمة وشطارة لتسويفه وتسويقه، وبدلا من التفكير فى كيفية مصادرتهم يكون الأجدى هو السعى فكرا وعملا لتعظيم وحدة التراب الوطنى ووحدة وتماسك النسيج الاجتماعي، والمساهمة فى تفتح الآراء والاتجاهات لتكون حديقة الوطن أزهى وأكثر بهاء!. ولا أدرى لماذا يتجه تفكيرى دوما، وفى هذه المرحلة تحديدا من مراحل تاريخ مجتمعنا، إلى أننا نواجه حالة من حالات الكوارث التى إذا ما حلت فى مجتمع من المجتمعات إلا وأعلن الطوارئ ـ ليس بالقوانين وحظر التجوال ـ وإنما الطوارئ المجتمعية، بحيث يكون الكل الاجتماعى بتنويعاته الفكرية والسياسية والاجتماعية منخرطا فى مهمة مواجهة الكارثة.. تماما مثلما هى مواجهات الأعاصير والزلازل والبراكين، ولن أقول الأوبئة حتى لا يخرج علينا أسيادنا مفتشو عموم الليبرالية والثورية، ويقولون أنهم يشبهون الثورة بالوباء!!، رغم أننى وزملائى وأهلى وأولادى كنا فى الميادين فى يناير وفى يونيو، وقبلهما بعشرات السنين لم أضبط نفسى مرة فى صف مؤيدى الحكم، ولم أضبط قلمى إلا معارضا وتشهد الزنازين وأبراشها على ذلك.

وعندئذ وحينئذ ووقتئذ، وبكل ما هو من ذلك القبيل.. يأتى الحديث عن دور الجيوش عامة والجيش المصرى بوجه خاص لأستفتح بالذى هو خير، وأعنى به أن كل الدول المحترمة المتقدمة تتخذ من جيوشها قاطرة للتقدم. وحسبما أعرف فإن الصناعات العسكرية الاستراتيجية دائما ما تكون هى البادئة بموجات الثورات الصناعية المتعاقبة، وحتى الآن فإن صناعات الفضاء، وهى صناعات عسكرية بالأساس يحوطها الكتمان والسرية، إلى أن يمضى زمن طويل على الاختراع أو الاكتشاف ليتم الدفع به إلى الصناعات المدنية ويدخل عامة الناس فى سوق استهلاكه.

نعم.. يمكن أن تكون الشركات صاحبة رأس المال فى بعض تلك الصناعات الاستراتيجية المرتبطة بالأمن القومى للدول المتقدمة، شركات خاصة يملكها مدنيون، ولكن خططها وأبحاثها ومنتجاتها لا تنفصل عن منظومة الأمن بأعلى وأكثر مضامينه انضباطا!

إن الكارثة التى تستدعى منا فى مصر أن نبذل كل ما فى وسعنا، لتثبيت دور الجيش المصرى كقاطرة، هى أننا نخوض حربا فعلية وإن اختلفت أشكالها وتعددت درجاتها على خمس جبهات، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وفى العمق الجغرافى والاجتماعي، وأننا وبصرف النظر عن الاختلاف فى تحليل الأسباب، نعيش كارثة على المستوى الاقتصادي، وأزمات أحيانا تصل لمستوى «الكارثية» فى الأمن الجنائي، وفى العلاقات الاجتماعية وفى معظم ـ إن لم يكن كل ـ الجوانب التعليمية والصحية والإنتاجية فى الصناعة والزراعة، وربما لم يتبق إلا قطاع التجارة وخاصة التوكيلات والاستيراد!.. وفى اعتقادى أن الجيش المصرى بإمكاناته وخبراته وخريجى الكلية الفنية العسكرية وكليات الأكاديمية العليا، يستطيع أن يقدم الكثير فى هذا الصدد.

أعلم وأتوقع أن يعلو الصراخ «الحقونا.. امسك: إنهم يبادرون من الآن لنفاق الجيش ولفتح الباب أمام تمكين العسكريين الحاليين والمتقاعدين من زمارة رقبة البلد، وسنعود إلى أهل الثقة، وستحل العشيرة العسكرية محل العشيرة الإخوانية»! وأبادر فأقول: إن ضعف القدرات وقلة الخبرة والميل للفساد أمور لا ترتبط بشكل الملبس الذى يرتديه البشر حاليا أو سابقا، وكم من بهوات وباشوات من المدنيين الذين لم يلمس الكاكى أجسادهم، وفيهم أساتذة ومستشارون وخبراء لم يثبتوا أية جدارة فى مواقعهم، بل إن أزهى عصور الفساد والإفساد والنهب والهبر الواسع، كانت عندما حصدت بعض أجنحة الرأسمالية المصرية عائد نصر أكتوبر العظيم، ولمن تخونه ذاكرته فإن مصر ضاعت اقتصاديا على يد المقاول إياه ومحتكر التجارة مع روسيا إياه وغيرهما، ممن يجلون عن الحصر ومعهم الذين أطعمونا النوارس المنتنة على أنها فراخ، وكان معهم الذين وظفوا الأموال بلافتات دينية وسرقوا عرق ملايين المصريين الذين أفنوا عمرهم وجهدهم فى توفير «التحويشة» المالية من عملهم فى بلاد النفط.. ولا أنكر أنه كان بين هؤلاء وأولئك جنرالات سابقون لم يفلتوا من الهبر فى مناخ قيل عنه، إن من لم يغتن فيه فلن يغتنى أبدا وقد قالها رأس البلد آنذاك!...

إننا بصدد مواجهة شاملة لابد أن يشارك فيها الجميع، وحتى تتم تهيئة المناخ لهذه المشاركة الشاملة، ويتم تقسيم العمل فى الكتلة الاجتماعية كلها، فإن التكوين الجاهز لأداء دوره وما فوق دوره فى هذه المرحلة هو الجيش المصرى بحكم عوامل كثيرة، أقلها التماسك والانضباط ووفرة التخصص فى أكثر من مجال. وفى ظنى أن التحدى الحقيقى ليس هو عودة الجيش لثكناته، وهى المعزوفة التى لا يمل البعض من ترديدها، رغم أن الاسطوانة أصابتها الشروخ، وإنما التحدى هو العمل وبأقصى سرعة على انتظام كل التكوينات الاجتماعية وكل الجهات الإنتاجية والخدمية فى مهامها الطبيعية وبروح التفانى إلى آخر مدي.والتحدى الحقيقى هو الاستفادة القصوى من خبرات وإمكانات ومسلكيات الجيش المصري، ليكون القاطرة التى تصل بقطار الوطن إلى أول محطة استقرار، لينصرف كل إلى وجهته فى خدمة البلاد والعباد.

كفى تمزيقا وتفتيتا وتفكيكا وليتنا نشاهد روادا للعمل الوطنى فى أكثر من مجال، وخاصة مجال التعليم والتثقيف وتعميق الوعى عند القطاعات الجماهيرية الواسعة فى أعماق الدلتا وأقاصى الصعيد، وفى سيناء والبحر الأحمر والصحراء الغربية.. وليتقدم الصفوف كل العازفين وفق نوتة أوروبا والولايات المتحدة.
                                   
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 5 يونيو 2014

No comments:

Post a Comment