Thursday 30 May 2019

بصمة السيسي في بناء الإنسان





تبقى قضية بناء الإنسان– ولن أقول معضلة بنائه– هي الشاغل الأكبر للبشرية عبر العصور، بل لا أبالغ إذا قلت إنها كانت وبقيت محور اهتمام الأديان والشرائع سماوية كانت أم قيل إنها غير سماوية، أي فيها قولان، ولذلك فإن من يظن أنها مهمة سهلة أو أنها محض حملات دعائية أو توعوية فهو غير محق.

ومن العام إلى الخاص سنجد أننا في المحروسة لنا هوية ولنا شخصية.. ولم يتوقف الحديث عقودًا من بعد عقود عن الهوية المصرية والشخصية المصرية، ويعلو الإيقاع كلما كنا في محنة أو في مرحلة تحول أو أيضًا في مرحلة انطلاق، وفي نظري فإن الإنسان المصري إذا كانت هويته وشخصيته في حالة سليمة غير مشوشتين ولا مهزوزتين فإن تعظيم بنائه وصقله وتجلية قدراته لمواجهة كل التحديات، يكون أمرًا واردًا ولن أقول سهلًا.

لقد كان للجغرافيا وللتاريخ الفعل الأول والأساسي في تأسيس وتركيب الهوية المصرية، وكان لهما وللمتغيرات التي تعامل معها الإنسان المصري الفعل الأول والأساسي أيضًا في ترسيخ الشخصية المصرية، وكان تحقيق الأمن والعدل في الوطن من حول النهر هو القاسم المشترك الأعظم بين كل المراحل، التي شهدت نهضة مصرية وتعظيمًا لدور المحروسة في محيطها المباشر، وفي الإقليم كله، وفي العالم القديم، وحتى المرحلة الحديثة والمعاصرة، وإذا تهدد الأمن واختلت موازين العدالة بالمعنى الأوسع والأشمل لكليهما، أي للأمن والعدل، فإن الهوية والشخصية المصرية تتعرضان للخلل، ويبدأ التحلل والاضمحلال لتعلو سطوة القيم والمسلكيات والمواقف السلبية والأنامالية والخلاص الفردي، والإضرار بالوطن، والوقوع في براثن الاختراق الخارجي لتصبح الخيانة وجهة نظر!

ولقد تجلت هذه المعادلة في مصر القديمة، خلال ما سمي بعصور الاضمحلال التي كان أولها بين عامي 2181 – 2055 قبل الميلاد، وثانيها بين عامي 1650 – 1550 قبل الميلاد، وثالثها بين عامي 1069 – 664 قبل الميلاد تقريبًا.

ثم كان أن تعرضت مصر للاحتلال الأجنبي من الفرس والإغريق ثم الرومان، وبعدها جاء الغزو العربي، ثم كان الغزو العثماني، إلى أن جاءت الحملة الفرنسية، وبعدها جاء الاحتلال البريطاني.. وكان القاسم المشترك بين تلك الحقب هو الاختلال الجسيم في معادلة الأمن والعدل، وظهر المتعاونون مع الاحتلال لدرجة أن تاريخنا الحديث عرف من أسموا أنفسهم بأصحاب المصلحة الحقيقية في التعاون مع الاستعمار البريطاني، وكانوا من كبار الملاك الزراعيين!

وإذا قفزنا باتجاه واقعنا الراهن فسنجد ترجمة حقيقية لهذا الذي أذهب إليه، حيث أعلن الرئيس السيسي، وهو رئيس منتخب بإرادة الشعب، أنه سيتجه إلى بناء الإنسان، ولذلك كانت مرحلة التأسيس لهذا البناء بتحقيق الأمن والسعي لتحقيق العدل، وخاضت مصر وتخوض منذ 2013 حربًا حقيقية على جبهات خمس لتحقيق الأمن، لأن التهديدات والعدوان يأتينا من الشرق في سيناء، ومن الغرب من ليبيا، ومن الجنوب بتهريب الأسلحة والإرهابيين وتهدد مياه النيل، ومن الشمال بالهجوم من منظمات ومؤسسات تزعم الوصاية على الديمقراطية وحقوق الإنسان، ثم الجبهة الخامسة في العمق، حيث لم يترك الإرهاب والفساد وتجار المخدرات مساحة فيه إلا حاولوا التمركز فيها لتدمير الأمن ومن ثم الإنسان.

ولم تكن المشروعات العملاقة في أكثر من مجال ومعها التصدي لمشاكل متراكمة كالعشوائيات وكالأمراض الوبائية الرهيبة، إلا خطوات تأسيسية لإقرار العدل بوجه عام والعدل الاجتماعي بوجه خاص.

إن مصر منذ 2013 تحاول تمتين مداميك الهوية والشخصية المصرية مدماكًا بعد مدماك ولبنة بجوار لبنة أخرى، ومازلت أذكر وفي الوقت نفسه أعظّم ما تم لاستنهاض الهمة المصرية، عندما تمت مناشدة شعب مصر للمساهمة في مشروع القناة الجديدة وتعمير المنطقة هناك، واستجاب الناس، وتم جمع أكثر من ستين مليار جنيه في زمن قياسي، في الوقت الذي تقاعست فيه ما يسمى بالرأسمالية المصرية عن المهمة، ليلعو صوت الإرادة الجمعية المصرية، وكأنه يقول بالبلدي "رقبتنا سدادة"!

لقد كان استنهاض الهمة والمكاشفة بحجم وعمق التحديات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، هما أول خطوة باتجاه إعادة بناء الإنسان في مصر.. وتسارعت الخطوات بما أُعلن في مجال الصحة العامة وصحة الأجيال الطالعة، وحماية الغارمين والغارمات وتجلية وتعظيم دور المرأة المصرية، والانطلاق في بناء القدرات العسكرية المصرية بحاملات الطائرات، والطائرات الحربية الحديثة، والقواعد العسكرية الوطنية، وتنوع مصادر السلاح، وتوازن ونجاح العلاقات الدولية الخارجية، ورفض الأحلاف، وغير ذلك الكثير، خطوات جادة في بناء الإنسان، سواء بالتركيز على قطاعات معينة لتصبح قاطرات قوية تشد مع غيرها الجسد الاجتماعي كله، أو بإبراز قيم ومعانٍ عالية المضمون، ليبدأ العقل الجمعي بالتعامل معها، فيزداد توقدًا وإشعاعًا.

ولأنها مهمة غير سهلة، ولن تستطيع الدولة وقيادتها وحدهما تحقيقها بشكل أمثل، فإن هناك دورًا مهمًا وحيويًا لقطاعات النخبة المصرية الممتدة في مجالات الفكر والأدب والفن والجامعات والبحث العلمي، ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية، ومؤسسات التدين كالمساجد والكنائس.. وأيضًا النقابات والجمعيات العلمية وأيضًا الأفراد من المفكرين والكتاب وغيرهم.. وهو دور مازال غائبًا، أو على الأقل منقوصًا بشكل فادح، والحديث في ذلك وعنه يطول، غير أن الحيل مهدود وألم الفقرات مهول، وكل رمضان وأنتم بخير.

نشرت في مجلة الهلال عدد يونيو 2019.

No comments:

Post a Comment