Thursday 27 June 2019

ثلاثة مشاهد كاشفة





لا أعرف هل هو حسن حظي أم سوؤه أن تشاء الأقدار أن ألتقي معظم قيادات الحركة السياسية المصرية، من التيارات القومية واليسارية والليبرالية والإسلامية والمسيحية، وقيادات الأحزاب والحركات في لبنان وسوريا واليمن والعراق والسودان، وكذلك أن ألتقي معظم قيادات المقاومة الفلسطينية من فتح والشعبية والديمقراطية وجبهة تحرير فلسطين، ومن قبلها فلسطين العربية، وأيضًا حماس والجهاد، ناهيك عن شخصيات عامة من المفكرين والمثقفين من كل تلك الجهات، وكان ذلك خلال الفترة الممتدة من مطلع السبعينيات من القرن العشرين إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أي حوالي أربعين عامًا، حيث فضلت بعدها الانسحاب تدريجيًا من النشاط السياسي العام، والانصراف إلى القراءة والكتابة الدورية في الصحافة، والحديث في التليفزيون والإذاعة أحيانًا.

وسر عدم معرفتي مرتبط بأن مسوغات حُسن الحظ عديدة، وكذلك أيضًا مسوغات سوئه، وكلها أمور نسبية تخضع لرؤيتي الذاتية من حيث مدى تكويني المعرفي وقدرتي على الفهم، وعلى التعامل مع الظواهر والزاوية التي أنظر منها، إذ من المؤكد أن ثمة زوايا أخرى لم أصل إليها، عدا عن أن البعض قد يكونون محقين عندما يرون أنه حتى السلبيات التي تصادف المرء عند تعامله مع البشر تعد حظًا حسنًا، لأنها كشفت له ما قد يكون انخدع فيه أو أساء التقدير!

تلك المقدمة كانت ضرورية لكي أكتب ثلاثة مشاهد رأيتها، كان أولها منقولًا من قطر، وثانيها من تركيا، وثالثها من تونس، وكان الموضوع واحدًا ألا وهو صلاة جنازة وتأبين وقراءة فاتحة للراحل محمد مرسي.. وقد شدني مشهد خالد مشعل قائد حماس ورئيس مكتبها السياسي السابق، وهو ممتط صهوة المسرح من خلف ميكروفون، ومن خلفه وقف طابور يتلقى العزاء من طابور آخر يقدم العزاء!

جسد مفرود يتدلى منه كرش متوسط وحنجرة رنانة مع لسان طلق ويد تترجم بأصابعها بعض معاني الكلمات إلى حركات، ثم رشقات أو زخات متصلة من المبالغات والبلاغات والمغالطات، تؤكد أن ما استقر في يقيني عبر تلك الأربعين سنة، التي عشت فيها مع كل ذلك الكوكتيل السياسي صحيح، ألا وهو أن قيادات المنظمات ذات الانتماء الأيديولوجي الديني مثل حماس وحزب التحرير وغيرها، هم أكثر السياسيين قدرة وجرأة على النصب والتزييف والمتاجرة بأمرين مقدسين أولهما، النص الديني والتوجه الإسلامي، وثانيهما النضال ضد الوجود الصهيوني الاستعماري الاستيطاني في فلسطين والأراضي المحتلة!، ذلك أن تلك السمات قد تلحق بيساري أو ليبرالي أو قومي، وعندها تحسب بالسالب من انتمائه الوضعي الإنساني، أما الذين يطلقون اللحى ويحفون الشوارب ويبرزون الزبيبة ويتدفقون بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، فإنهم عندما ينصبون ويكذبون ويزيفون، فهي كارثة مزدوجة وفاجعة لا علاج لها!

تحدث مشعل أو بالأصح "فشر"، فزعم أن الأسد محمد مرسي– رحمة الله عليه– بمكالمة تليفونية واحدة ردع وأرعب أوباما والأوروبيين وسائر عموم المسؤولين في أمريكا وأوروبا وإسرائيل لوقف اعتداء إسرائيلي على غزة، وأبلغهم بأنهم إذا لم يرتدعوا ويوقفوا ما يجري فإن له كلامًا آخر.. أو هكذا قال!.. واستمر مشعل الذي يمكن أن نسميه "مفشر"، نسبة للفشر الذي هو الكذب الصراح المفضوح، ليؤكد ما مضمونه أن فلسطين كادت أن تتحرر من نهرها إلى بحرها، وأن العصر الذهبي للإسلام قد تأكد في ظل رئاسة الأسد وإخوانه وجماعته وعشيرته!

أما ما جرى في تركيا بقيادة "البجم" أردوغان وما يصدر عادة من كلام يؤكد أن حجم وعمق وكثافة كراهية البجم لمصر وقائدها، فهو أمر متوقع، ولكن الغريب هو وجود الأنطاع الذين لا يلفت نظرهم حجم وعمق التناقض بين المضامين الدينية الإسلامية وبين الواقع التركي، سواء في الحياة اليومية أو في العلاقات الخارجية، خاصة مع الدولة الصهيونية والحلف الأطلسي، أو في التآمر الذي لم يتوقف ضد مصر وضد كل ما هو وطني وقومي!

ثم كان المشهد الثالث في برلمان تونس، حيث تقدم أحد الأنطاع بطلب لتأبين المرحوم وقراءة الفاتحة، باعتباره أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر!!، وقامت نائبة تونسية رضعت من صدر أمها الشجاعة والوعي ووضوح الرؤية، وردت بأن ذلك ليس من شأن البرلمان التونسي، وثار الصخب إلى أن حُسم الأمر بقراءة الفاتحة، باعتبار المرحوم نفسًا إنسانية يجوز الترحم عليها!

إن كل ما سبق يعني بالنسبة لي أن مصر لاتزال مستهدفة وبضراوة ممتلئة غيظًا ومرارة وحقدًا، وأن الجهد الواجب أن نبذله كمصريين لا بد أن يكون بالمستوى نفسه، ليصبح القاسم المشترك الأعظم بيننا باختلاف مشاربنا الفكرية وانتماءاتنا السياسية، هو العمل على أن تبقى مصر متوازنة متماسكة لتستمر قوتها، وأن يكون العمل والعلم والعطاء هو وسيلتنا التي لا بديل لها، وإلا فإن جهاز مناعتنا الوطني، الذي استعدنا له قوته في الثلاثين من يونيو يمكن أن يُصاب بالنقص والانهيار لا قدر الله.

إن حجم وعمق وكثافة العداء ضد مصر وقيادتها من قطر وتركيا وحماس والإخوان في تونس، وفي كل مكان على سطح الأرض، يتعين دراسته دراسة تفصيلية، وأعتقد أن مراكز الدراسات، خاصة مركز الدراسات في الأهرام، لديها الكفاءات والخبرات التي تؤهلها للمهمة لنتبصر بالعدو مثلما تبصرنا بالعدو الصهيوني بعد 1967.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 27 يونيو 2019.

Wednesday 26 June 2019

مقدمة قبل "انتهاء الصلاحية"





كأنها موجات من زفير التنهد والارتياح تأتي تعليقات غالبية من يتفضلون بالتعقيب على ما أكتبه من ذكريات تتصل بالقرية والموالد والسجون وغيرها من مجالات بعيدة عن التناول السياسي المباشر للأحداث، ويبدو أن شريحة المثقفين والمهتمين بالقراءة قد أصابها الزهق والضجر والملل مما يعرض في المجال السياسي خاصة ومجال الاختلافات والتراشقات، التي يحرص بعض من يقترفون الكتابة على البقاء في مستنقعها.. ولذلك يبقى الكاتب في حيرة من أمره، لأنه إذا تجاهل الأحداث الجارية والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وإذا ابتعد عن الاشتباك لدحض باطل يزيف تاريخًا أو يخفي حقيقة، فقد يقال إنه ممن صاروا يؤثرون السلامة وأضحى ممن يهربون من تحمل مسؤولية اتخاذ موقف واضح مما يجرى، ويناله من الاستهجان ما قد تكون صيغته بالبلدي: "شوف والنبي.. فلان سايب الدنيا تضرب تقلب ومتعامي عن الأحداث الساخنة وقاعد يتكلم عن الغيط والدار والفلاحين وغيره"! أما إذا انغمس في الشأن العام وواصل الاهتمام بما يحدث؛ يحلله ويفسره ويعلن موقفه منه، قيل: "كفاية سياسة.. لعن الله ساس ويسوس وما اشتق منها.. كل الكتابة تشبه بعضها ولا أحد عنده من المعلومات الموثوقة ما يجعل رأيه وتحليله هو الأصوب.. وكل يغني على ليلاه ويسعى لتجيير الأحداث لصالح معتقداته وتوجهاته الفكرية والسياسية"! ولذلك فإن الكاتب يلجأ أحيانا إلى أسلوب التورية والإسقاط، بحيث يتخذ من مادة تاريخية أو ذكريات ذاتية أو كتابة خفيفة ساخرة ومضحكة وسطًا حاملًا لوجهة نظره تجاه الوضع السياسي القائم! وفي هذا تأتي سيرة المرأة التي دخلت على هارون الرشيد وعنده أصحابه، فقالت له: "يا أمير المؤمنين أقر الله عينك، وفرحك بما آتاك وأتم سعدك، لقد حكمت فقسطت" ثم سكتت، وظن أصحاب الرشيد أنه ارتاح وابتهج لما قالت، وإذا به يسألهم عما قالت، فقالوا: ما نراها إلا خيرًا، فقال الرشيد: ما أظنكم فهمتهم، وبدأ يشرح: أما قولها أقرّ الله عينك فمعناها أسكنها.. وإذا سكنت العين عن الحركة عميت! وأما قولها: وفرّحك بما آتاك فقد أخذته من قوله تعالى: "حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة"! وأما قولها: وأتم سعدك فأخذته من قول الشاعر: إذا تم أمر بدا نقصه ** ترقب زوالا إذا قيل تم! وأما قولها: حكمت فقسطت فمعناها حكمت فجُرت وأخذته من قوله تعالى: "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا"! ثم التفت إليها الرشيد وقال لها: ممن المرأة؟! فقالت: ممن قتلت رجالهم وأخذت أموالهم! فقال لها: أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله، وأما الأموال فمردودة إليك"!

ولو أن كل من يكتبون في فترة من الفترات لجأوا لمثل هذا الأسلوب لأصبح الأمر شديد العسر على من يراقبون ما يكتب ويتابعون ما ينشر، وهنا كثيرًا ما أتذكر النكتة التي كان يحلو للعم الساخر محمود السعدني ترديدها بين حين وآخر، وتحكي عن المتهم الذي تقرر القبض عليه بتهمة توزيع منشورات مضادة، وداهمته القوات وسحبوه من قفاه، ومع الصفع والركل والصياح صرخ معترفًا ومشيرًا إلى المكان الذي يخزن فيه الأوراق، وفتحوا المكان فإذا بالرزم مكدسة، ورزمة بعد رزمة وورقة بعد ورقة وجدوها جميعا ورقًا أبيض خاليًا من الكتابة، فظنوا أنه الحبر السري، واستدعي المختصون من المعامل المتخصصة، فإذا بهم يؤكدون أنها بيضاء فعلًا ولا كتابة فيها، فلما سألوه أكد أن هذه هي المنشورات وأنه يوزعها بيضاء من كثرة ما عنده من انتقادات، هيكتب إيه.. واللا إيه.. واللا إيه!

والعجيب في الظاهرة أنه قد يكون واردًا في تناول الأوضاع القائمة في أي بلد استخدام أسلوب التورية والإسقاط، ولكننا قد نصادف من يكتب بطريقة "التلئيح" التي لا تكتب بالقاف لأنها ستحمل معنى آخر مغايرًا تمامًا، و"التلئيح" جزء من التراث الشعبي يزدهر في الحارات والأزقة وله فنونه ونوادره، ومن أمثلته في صحافتنا الحالية أن يتم التركيز- وعلى طول وباستمرار وفي كل الأوقات وبكل السبل- لتوصيل رسائل إلى أصحاب القرار عبر التطاول- اللامتناهي في الوقت وفي المبالغة وفي الافتراء والتزييف- على ثورة يوليو وعبد الناصر، دون أي انتباه إلى أن هذا اللون من الكتابة أصبح منتهي الصلاحية يعني Expired.. لا يقبل على الاقتراب منه إلا من تعود عليه في كل حياته.. وأن من يروجه ويسوقه له سمات خاصة.

وكما سبق ووعدت فإنني بصدد التفصيل في ظاهرة "انتهاء الصلاحية" عبر مقالات مقبلة.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 26 يونيو 2019.

Thursday 20 June 2019

شهادة عن 30 يونيو





ليس استباقًا لما سيتم مستقبلًا من دراسات تاريخية حول ثورة 30 يونيو ومن قبلها ثورة 25 يناير، ومن قبلهما الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. والأوضاع الإقليمية والدولية.. والأبعاد الفكرية والثقافية، التي عاشتها مصر وأدت إلى ثورتين بهذا الحجم، ولكنه شهادة من أحد شهود الحقبة، لديه حد أدنى من الوعي والثقافة، وشاءت ظروفه أن يكون مشاركًا بدور ما، قد يختلف على حجمه وتأثيره في الفعل السياسي والثقافي المصري، في الفترة من 1968 إلى 2019، تاريخ كتابة هذه السطور. وغني عن التوضيح أن شهادات الأحياء المعاصرين والمشاركين والمراقبين للأحداث تعد أحد المصادر التي يعتمد عليها دارسو التاريخ، شريطة أن يخضعوها للمنهج العلمي الذي يحدد قواعد التعامل مع "المذكرات والشهادات الشفهية"، ويخضعها للنقد من داخلها ومن خارجها، حتى يمكن تحري الحقيقة التي هي دائمًا نسبية في العلوم الإنسانية. ثم إن ثمة أمورًا يجب أن تتوافر للشاهد، منها أن يكون سليم العقل، حاضر الذاكرة، لا تختلط في ذهنه- ومن ثم حديثه أو كتابته- الوقائع والتواريخ، وأن يكون حائزًا لما يثبت ما يذهب إليه، سواء بوثائق أو شهادات لآخرين، إلى آخر ما هو مشترك بين قواعد "الجرح والتعديل"، التي ارتبط بها البحث في الأحاديث النبوية رواية وتسجيلا، وبين الأدوات المنهجية التي أرساها علماء مناهج البحث.

وربما تبدأ الشهادة بالتفصيل في المقدمات والمسارات، وما قد يكون خاصا بالشاهد، حيث قاده تكوينه ومنهجه وقدرته على التحليل إلى التقاط نقاط بعينها رآها متفردة متوهجة.. ورأى غيرها مرتبطًا بأحداث أخرى أو مشابهًا لما حدث في مراحل سابقة.

كانت المقدمات المباشرة للثلاثين من يونيو، هي تمكن القوى التي خططت لما يسمى بـ"الربيع العربي" من تنفيذ ما رتبت له، والتقت فيها إرادة رئيسية هي الإرادة الأمريكية مع إرادات أخرى داخلية، هي القوى السياسية ذات المرجعية الدينية والقوى المتوزعة بين ما سمي ناشطين سياسيين من أرضية يسارية عدمية، وآخرين من أرضية الرفض العنيف المتخذ من العنف الدموي منهجًا ومسلكًا، وكان المحيط الذي لعبت فيه هذه القوى دورها الممنهج هو جماهير الشارع المصري والنخب التي كانت قد وصلت إلى الاختلاف الجذري مع حكم مبارك، وفور أن حانت لحظة مغادرة النظام للمسرح السياسي لم يسدل الستار وإنما صعد إلى المسرح- وعلى الفور- من كانوا جاهزين ومعدين للسيناريوهات وللديكورات وللخدع وللإخراج، وأعني بهم الإخوان المسلمين، وأظن أن وقتًا سيأتي تتم فيه دراسة الظاهرة مكتملة برمتها.. ولم يكن واردًا- بحال من الأحوال- خاصة في مصر بتكوينها وتاريخها ألا يتم التصدي لما حدث، وكان المنهج الفريد الذي اتبعته القوى المدركة لخطورة ما جرى هو امتصاص الصدمة، وتلقي الضربة الأولى والعكوف على كيفية إدارة الأمر، لتوجيه الضربة المضادة من حيث التوقيت والأسلحة المستخدمة ماديًا ومعنويًا والقوى المشاركة في المعركة، ودراسة كل الاحتمالات، وكيفية التعامل معها.. وكانت "تمرد".. وكان الدور الجوهري الحاسم للقوات المسلحة وقيادتها.

ولأن أي شاهد من البشر لا يمكن له أن يعزل ذاته عن شهادته، بمعنى أنه لا بد من الانحياز، مهما كانت درجة تحري الموضوعية، فإنني لا أنكر أنني شاهد منحاز للثلاثين من يونيو ولقيادتها، ولا أنكر أيضا أن متابعتي المباشرة لما يجرى في مصر والمنطقة والعالم وبحكم المهنة أيضا تجعلني أقول ما يلي:

أولا: إن مجرد تخليص مصر من حكم وتسلط وفلسفة ومنهج الإخوان المسلمين، يكفي لأن ينحاز من هم مثلي ممن عايشوا الحياة السياسية المصرية بوعي وبمشاركة منذ ستينيات القرن الماضي إلى الآن إلى تلك الثورة، ولا بد في هذا الإطار من التنويه إلى أن الإخوان بعد تولي الحكم أعدوا ما استطاعوا من تدابير، كي يستمروا على العرش لخمسة قرون على الأقل، مثلما قال خيرت الشاطر.

ثانيًا: إن مجرد قدرة من قاد مصر بعد الإخوان على التعامل مع ظروف داخلية منهارة، ومع ظروف إقليمية مشتعلة ومعادية، ومع ظروف دولية معادية ومتواطئة في السيناريو الأصلي قبل يناير، يكفي هو الآخر لتدعيم هذا الانحياز، وكم أود أن أجد نفسي في فريق عمل يضم باحثين وعلماء، وبعيدا عن الدوائر الرسمية، لتوثيق ودراسة الظروف التي أحاطت بثورة يونيو داخليا وإقليميا ودوليا.

ثالثًا: إن ما تم من إنجازات اكتملت بالفعل في مجال بناء جيش وطني قوي، ومجال البنية الأساسية، من طرق برية وبحرية وموانئ بحرية وجوية، ومجال الخدمات في الصحة والتعليم والتموين والعناية بالتجمعات الأكثر فقرا والقضاء على العشوائيات وتعظيم قدرات بعض المؤسسات الاستراتيجية، كالترسانة البحرية وغيرها، ثم تصدي القوات المسلحة للإشراف على المشروعات من حيث توقيتات الإنجاز وجودة التنفيذ ومنع الفساد وغير ذلك الكثير، هو أيضا حافز على الانحياز.

رابعا: إن الانحياز لا يعني غض الطرف أو طمس البصيرة عن النواقص والسلبيات، وهي بحكم عشرات العوامل ليست من صنع 30 يونيو فكرا وتطبيقا وقيادة، وإنما هي معطيات واقعية تعرفها مصر عبر العصور ووارد أن مواجهتها وعلاجها لم يكونا حتى الآن على الوجه الأمثل، ويمكن لمن يريد أن يتصيد التقاط ما يريد، ولكن الأصل هو أن يبحث المرء عن السلبيات وتقصي أسبابها وعوامل استمرارها وظروف استفحالها، وأن يكبد عقله عناء المساهمة في سبل القضاء عليها أو التخفيف من آثارها.

تحية خالصة للشعب الذي خرج بالملايين مصممًا على رفض وعلى إسقاط حكم المرشد.. وتحية للشباب الذين أبدعوا الوسيلة التنظيمية لتحويل الزخم الجماهيري إلى وثيقة توثق إرادة الناس.. وتحية للبواسل من قادة وضباط وصف وجنود القوات المسلحة الذين أدركوا حجم وعمق الخطر، ولم يتخلوا عن وطنهم مع إدراكهم أن الثمن فادح، بما في ذلك أرواحهم الغالية نفسها، إذا لم يكن التقدير والتنفيذ سليمين.

إن ثورة يونيو ما زالت مستمرة تمضي بثبات من أجل رفاهية وعزة وقوة هذا الوطن.. أشهد بذلك وأبصم بالعشرة.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 20 يونيو 2019.

Wednesday 19 June 2019

المسامح الكريم





"تشريبة" ثم نواصل.. والتشريبة اسم يطلقه فلاحو بعض مناطق الدلتا المصرية على الوقت المقتطع لقليل من الراحة من يوم العمل في طقس بؤونة الذي يفلق الحجر، حتى يلتقط "التملِّيّة"– تاء وميم مفتوحتان ولام مكسورة وياء مشددة مفتوحة– أنفاسهم ويشربون الماء من القلل والبلاليص- إذا كانت موجودة- ليتدفق من حلقها الماء في فم الشارب وعلى وجهه وصدره، وإذا لم تكن موجودة يقترب العطشان من حافة الترعة وينطر الماء منها بكفه تجاه فمه، أو يتمدد على بطنه ليشرب بفمه مباشرة، وإذا صادفه بعض الريم أو العفش على وجه ماء الترعة أبعده بيده، وعليه ألا ينتبه أبدًا لرائحة العطن أو لأبي ذنيبة– "طور من أطوار نمو الضفدعة"– السابح بالعشرات! وإذا سمح الوقت والإمكانيات فإن التشريبة تصبح فاخرة بالشاي ثقيل التلقيمة شايًا وسكرًا وغليانًا!

وللتشريبة عند أطرافها قواعد، لأن الأنفار- أو التملِّيّة- يريدون زيادة وقتها أو تكرارها لمرتين، إحداهما بين بدء العمل قبل الشمس وبين تناول الغداء عند الظهر.. والثانية قبيل العصر، فيما صاحب العمل- أو الخولي الذي ينوب عنه- لا يريدها إلا قصيرة سريعة ولمرة واحدة، وعليه فإن القاعدة هي أن يكفي وقتها لشرب المياه والشاي وفرد السيقان في الظل!

وقبل أن أنسى فقد حاولت البحث عن أصل ومعنى كلمة "تملِّيّ" وهو العامل الزراعي المعدم الذي يعمل باليومية في الحقول أو يعمل بالشهرية أو الموسمية لدى غيره.

ويبدو أن لها معاني متعددة، فهي في لهجة المدن تعني "دايما وعلى طول.. وفي كل وقت"– تملي معاك– وهي في لهجة الريف قد تعني من يتلقى الإملاء- أي الأوامر المملاة عليه- ويعمل على تنفيذها دون مناقشة، وقد كان الأمر لذلك العامل يأتي بصيغة "يللا.. اتملى خطك"، أي ابدأ العمل في خط جني القطن أو نقاوة الدودة أو غير ذلك.. وصار الاسم في التراث الشعبي وعند كل الناس كناية عن السخرة والشقاء! فيقال احتجاجًا "حضرتك فاكرني.. تملِّيّ عند اللي خلفك"!

تشريبتي اليوم سببها أنني في مقال سابق شطحت، فجاء الشطح عند البعض إساءة تستحق الحذف.. وقد وجدت، وإنني أنوي في فترة قصيرة مقبلة أن أكتب كلامًا ثقيلًا في مسألة مدى جواز صرف النظر عن "تاريخ الصلاحية" السياسية والاقتصادية والاجتماعية لبعض الأفكار والمناهج، ونحن بصدد بناء حاضر ومستقبل المجتمع! وما بين محذوف ومقذوف تعين أن أعود لجعبة أو مخلاة الذاكرة لأنبش وأنتعش، وما زلت أذكر التشريبة الرهيبة التي شاركت فيها فيما أنا صبي في السابعة، وقد حل الصيام أثناء موسم ضم "حصاد" القمح.. والقمح من النباتات التي يجب أن تُحصد بعد ارتفاع الشمس وتبخر الندي وأي رطوبة من على العيدان، ويؤدي ذلك إلى اشتداد صلابة وحدة الأشواك المدببة للسنابل التي تحوي الحبوب، وللحصاد آنذاك آلة يدوية أكبر من المنجل اسمها "الشرشرة"، يتم سن أسنانها عند الحدادين هي والمناجل قبل الحصاد، وينزل التملية من رأس الغيط وقد خلعوا الجلابيب وبقوا بقمصان الدمور المشدودة للوسط بـ"الشملة"، وهي حزام مجدول يدويًا من الصوف أو الكتان أو التيل، وتكون الهمة عالية عند ضربة البداية، إذ يميلون وهم وقوف منحنون على القمح الجاف المنتصب، وعندما تمتلئ القبضة اليسرى بالعيدان المضمومة– أي المحصودة– تفرغ على الأرض لتتراكم وتتحول إلى أغمار– جمع غمر أي حزمة- لتحمل الأغمار على الأكتاف بعد ذلك لتوضع أحمالا على ظهور الجمال التي تحملها إلى الأجران حيث النوارج– جمع نورج– جاهزة للدراس!

حل الصيام- كما أسلفت- وقبيل الظهيرة كان الأنفار قد فرهدوا من شدة القيظ والعرق ووخزات أشواك السنابل، فجاءت الإشارة الصوتية من خالي حلمي أن "يللا.. اطلعوا تشريبة شوية"! وما إن طلعوا ووصلوا إلى راس الغيط ارتموا تحت ظلال الجميز والصفصاف المزروعة على جسر الترعة العريضة نسبيّا، واسمها ترعة القطني القادمة من بسيون إلى الشمال، وكان الفلاحون يسمونها "البحر الخناق" لأسباب قد أذكرها لاحقًا.. وفيما الأنفار قد راحوا في تعسيلة نوم إجبارية، فرضها الجوع والحر والطراوة تحت الشجر، حتى جاءت الإشارة التالية من الخال الغالي، رحمة الله عليه.

وتقدم الذين عرفوا الشيفرة ليحمل كل اثنين منهم نفرًا من ذراعيه وقدميه وهيلا بيلا إلى المجرى المائي، فكنت كمن يسمع طشة حديد محمي متوهج في الماء.. وامتلأ البحر الخناق بالأنفار الذين كانوا يشهقون، ولما خرجوا استحلفوا بالله والنبي وسيدي إبراهيم الدسوقي وعيالهم.. "بذمتك.. ألم تشرب ماء"؟! ويجيء الرد ضعيفًا "والله غصبًا عني.. الميه اتسرسبت من حنكي لزوري.. وربنا عارف ومسامح كريم"!

وما زال في الجعبة ما يقال عن البحر الخناق وعن "شبراتنا" بلد الشواذلية– عائلة الشاذلي– التي كانت أرض أخوالي وأمي تقع في زمامها.. ولعلها تشريبة أخرى.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 19 يونيو 2019.

Thursday 13 June 2019

الأخطر من الجواسيس المحترفين!





مطرقة الإرهاب، التي ما زالت تحاول بإصرار دك وتدمير الوطن، وخاصة الوجود العضوي للإنسان المصري، والوجود المادي للمنشآت والمرافق وغيرها؛ يقابلها سندان لا يقل عنها إصرارًا على تدمير الوطن، وخاصة الوعي السياسي والثقافي والعقيدي، أي مجمل الوجدان الإنساني للمصريين، وفي اعتقادي أن المستهدف من المطرقة والسندان سويًا هو الحيلولة دون بناء الإنسان بناء سليمًا، وفق الاستراتيجية التي أعلنها رئيس الجمهورية، حيث أكد أن أهم مهمة مقبلة هي بناء الإنسان.

وإذا كان فعل المطرقة وما ينتج عنه من آثار لم يعد خافيًا على أحد، ولا يجادل فيه إلا متواطئ مع الإرهابيين؛ فإن دور السندان قد يخفى على البعض وقد يلتبس فهمه عند آخرين، وقد يساهم فيه غيرهم عن جهل وقلة إدراك، وهو دور يتجه إلى تزييف التاريخ وقلب الحقائق وتسطيح الفهم، ويتجه إلى التشكيك في كل إنجاز أو نية لإنجاز، ويتجه إلى تثبيط همة الشعب وإفقاده الثقة في نفسه وفي تاريخه وفي رموزه، كما يتجه إلى تعظيم شأن كل ما هو أجنبي- سواء كان محتلا سابقا أو معتديا لاحقا- وذلك للحط من شأن كل ما هو محلي وطني وشعبي، ويتجه أيضا إلى استكمال مشاريع التفتيت والتفكيك التي استهدفت إنهاء وجود مصر كوجود تاريخي حضاري ضارب في القدم والمركزية، وتابعنا حكايات مسيحيين ومسلمين.. ثم تفتيت كل منهما إلى طوائف ومذاهب فرعية واصطناع الاقتتال بينها، وحكايات مصري ونوبي وسيناوي وأمازيغي، وحكايات أشد خطورة كان أخطرها حكاية مدني وعسكري، وأيضا حكاية الطعن المباشر في أصول وكليات الاعتقاد في وجود الله سبحانه وتعالى.

ولقد تمت مواجهة فعل المطرقة مواجهة مباشرة، قامت بها قواتنا المسلحة الباسلة وقوات الشرطة، ومعهم كل من سقط شهيدا في هذه المواجهة من رجال القضاء ورجال الهيئات والخدمات المعاونة، وكذلك الأسر التي دفعت الثمن، ولا تزال المواجهة مستمرة معلومة الأبعاد وإن لم تكن معلومة المدى، أما مواجهة السندان فهي أوسع وأعم وأكبر من أن تتحملها جهة أو جهات في الدولة، وإنما هي- بحكم تعقيداتها وتشعباتها ومداها وتأثيراتها وحجم وعدد المستهدفين منها- تحتاج حتما إلى مساهمة تتكافأ معها وتبدأ بجهد جمعي من النخب الوطنية التي تضم مفكرين ومثقفين وعلماء ورجال أعمال وفنانين وأدباء، دون أن يعني ترتيب الأسماء أي دلالة تمييزية.

كما هو معلوم فإن الحروب الحديثة هي حروب أسلحة مشتركة على مستوى تنوع القوات، الذي تجاوز ما كان معروفًا في أزمان سالفة وضم البرية والبحرية والجوية، ودخلت أفرع وتخصصات عديدة لا أعرف عددها، ولكنني أتوقف عند مسألة استهداف الشعب نفسه لتدمير كل مكونات وجدانه حضاريا وثقافيا وتاريخيا وعقيديا، لأن ذلك هو السبيل الوحيدة لكسر الإرادة التي ما إن تكسر حتى تنهار كل جدران الصد، أو ينهار جهاز المناعة الوطني، ليصبح الجسد الاجتماعي فريسة لأضعف الفيروسات والجراثيم.

وفي اعتقادي أن الظن بأنها مواجهة مع عدو محلي داخلي، هو التنظيمات والتكوينات الإخوانية والمتسلفة والتوجهات التي تنضح من أقلام معينة ومن أفواه تفح فحيحها على الفضائيات هو ظن مخطئ، لأن هناك ظهيرا إقليميا ودوليا يساند هؤلاء وأولئك، ولا تفسير عندي لما يكتب وينشر في صحف عربية تصدر من لندن بأقلام غير مصرية، تتنوع بين أصول لبنانية وأخرى سعودية، حول ثورة يوليو وقائدها وحول هزيمة يونيو مثلا، إلا أن ذلك يمثل جزءا من الظهير الإقليمي والدولي المساند لذلك السندان، الذي شرحت أبعاد دوره فيما سبق من سطور.

ولقد سئلت كثيرا عن مدى معرفتي أو تقييمي لبعض الأسماء التي يظهر أصحابها في بعض الفضائيات ليصدموا الناس بآرائهم في الديانات السماوية، وفي الكتب المقدسة، وفي الأنبياء والرسل، وفي أحداث معينة من التاريخ المصري والعربي والإسلامي، وحول شخصيات تاريخية حازت مكانة مرموقة في وجدان الناس، وكنت وما زلت أؤكد أن معرفتي ببعضهم تؤكد أنهم محكومون ذاتيا بعقدة الظهور عبر قاعدة "خالف تعرف"، وأنهم يصوبون نيرانهم الشريرة على كل ما هو مقدس وكل ما يرمز لفكرة سامية وموقف نبيل في الوجدان الشعبي، محاولين تفريغ ذلك الوجدان من أي تقدير أو اعتزاز أو إيمان بالقيم العليا الإيمانية والإنسانية، وأكاد أجزم أن دور الطغمة الباغية التي تبذل كل طاقتها في هذا الاتجاه هو أخطر وأكثر ضراوة وضررا من دور الجواسيس المحترفين.. لأن الجاسوس المحترف يحاول ألا يظهر على الأقل ويحاول أن يؤدي مهمته في صمت دون صخب وفي نعومة بغير استفزاز.

إنها مواجهة شاملة إذا أردنا بناء الإنسان كأهم حصن يحمي بناء الأوطان.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 13 يونيو 2019.

Wednesday 12 June 2019

أضعف الإيمان





نجح المتأسلمون والمتسلفون، ومعهم ما يمكن أن نسميه "اللوبي" الصهيوني والأمريكي في مصر؛ في أن يهمشوا قضية الاستعمار الاستيطاني العنصري الصهيوني لفلسطين، بل وأكثر من ذلك، فإنهم دفعوا دفعًا باتجاه التقارب المتزايد سرعة وعمقًا مع الدولة الصهيونية، وحفز كثيرين ممن كانوا يعتبرون إسرائيل هي العدو الأول والرئيسي لشعوب المنطقة، إلى تغيير مواقفهم والنكوص عن قناعاتهم السابقة، فصاروا يعتبرونها صديقًا ونموذجًا وحليفًا من الدرجة الأولى!

وقبل أن أستطرد في تفاصيل عن ذلك النجاح، فإنني أدرك أن هناك من سيمتعض- وربما يفور دمه، وقد يغلي- من استخدام هذه اللهجة السياسية في "المصري اليوم"، التي يعد بعض القائمين على إدارتها والمهيمنين على القرار فيها من أبرز رموز اللوبي الذي أشرت إليه، ولا يخفى أن ما بذل من جهد رهيب في سبيل توجيه دفة الفكر السياسي المصري والإقليمي– العربي- إلى وجهة أخرى لا يكون فيها التقاطع أو التصادم مع إسرائيل هو الأولوية، وإنما يكون نسف فكر وتوجهات وتاريخ حركة التحرر الوطني المصري والعربي، وحركة التوجه القومي العربي؛ هو الأولوية الأولى، مع إعلاء شأـن الوجود الصهيوني واتخاذه مسلمة جغرافية سياسية تاريخية لا تقبل المناقشة.

نجح الطرفان في المهمة لدرجة كبيرة، لأن الإخوان والمتسلفين- ومن نحا منحاهم من أصحاب المرجعيات الدينية- لا يخفون عداءهم وتناقضهم فكريًا وحركيًا مع التوجهات والتطبيقات التحررية الوطنية والقومية، وقد شكل الصدام المروع بينهم وبين النظم الوطنية ذات التوجه والمضامين التحررية القومية جزءًا رئيسيًا من العامود الفقري للتاريخ الحديث والمعاصر، ومعلوم أن الدولة الصهيونية ساهمت في دعم تيار وتنظيمات التأسلم والتسلف، وما حزب التحرر الإسلامي وحركة حماس إلا نموذجان فاضحان للدور الصهيوني في هذا المضمار، ثم إن الموجة الإرهابية التي زحفت مثل الـ"تسونامي" في المنطقة بتأسيس ورعاية أمريكية ورضا وقبول من أطراف إقليمية، بل ودعم بالرجال والأموال بدعوى مواجهة المد الشيوعي والعلماني، ظلت تشتد وتتحول وتعمل على تهديد وتقويض الدولة الوطنية وحصارها، حتى لم يعد هناك مفر من التعاون مع الدولة الصهيونية، التي باتت في مأمن كامل من أي تهديد، بل وحتى الشعارات التي رفعها المتأسلمون ذات يوم من قبيل "خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود"، وما على غراره من شعارات حول القدس بمعزل عن فلسطين؛ ثبت أنها جوفاء غير حقيقية، والكل يتذكر رسالة محمد مرسي لرئيس الوزراء الصهيوني!

أما الجماعة "اللوبي" الصهيو– أمريكية التي تضم رجال أعمال وناشطين سياسيين و"خبراء استراتيجيين"-!!!- فغني عن الذكر مواقفها وحربها الفعلية ضد عدوها الوطني التحرري القومي، وهي حرب لا تزال قائمة ويستقطب لها من يمكن استقطابه من عناصر تعمل في الصحافة والكتابة لتحويلهم من نكرات خاملي الذكر إلى نجوم، طالما أدوا المهمة.. والأمثلة كثيرة تمنعني ضوابط النشر من التفصيل فيها وبالأسماء!

ولقد أدى ذلك مباشرة إلى أن نعاين الآن عربدة الصهاينة وتعاظم عدوانهم في الأرض المحتلة وضمهم للجولان وصفاقتهم العلنية بأنهم أصبحوا سادة المنطقة وأن الكل يسعى لخطب ودهم وإرضائهم ويتمنى الاستعانة بهم!
لست- وللمرة المليون- من أنصار الحروب وتمكين الصهاينة- ومعهم التحالفات الدولية والإقليمية- من طحن مصر وتقويض جهودها في التنمية والاستقرار، وبالقدر نفسه وللمرة المليون فأنا مع إدارة الصراع إدارة علمية رشيدة تعتمد على بناء وطننا بناء سليما في كل المجالات لنحوز أوراق القوة بكل تنوعاتها، وكلما امتلكنا إرادتنا وتعاظمت قوتنا فإن لكل حادث حديثًا.

إن أقل ما يمكن عمله الآن هو رفض العربدة والعدوان الصهيوني المتصاعد والمستمر على إخوتنا في فلسطين، وهو العمل على إحياء ما كنا بدأناه منذ زمن، وهو بناء حائط صد مقاوم ثقافيًا وفكريًا ووجدانيًا، لأن التاريخ لن يرحم.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 يونيو 2019.

Thursday 6 June 2019

الاستبعاد في العمل الوطني





أظن– وليس كل الظن إثما– أن عاقلا مهما كان انتماؤه الفكري والسياسي، وخاصة في الدوائر التي تتوزع بين مرجعيات وطنية قومية وأخرى وطنية ليبرالية وثالثة وطنية ماركسية، يختلف على المضامين التي احتواها خطاب الرئيس السيسي في القمم الأخيرة، وبمناسبة ليلة القدر.. ذلك أن الخطاب تضمن تشخيصا محددا جامعا للواقع العربي، وخاصة من جهة مهددات الأمن القومي وتشخيصا بالدقة نفسها لواقع المسلمين، واحتواء المحددات العملية التي تكفل مجابهة كل تلك التحديات.. وهنا وقبل أن أستطرد قد يرد سؤال على ذهن بعض القراء وهو: لماذا استبعد الكاتب من ينتمون أو يصدرون عن مرجعية دينية؟!.. والإجابة الصريحة الواضحة من وجهة نظري أن التجربة العملية التي عشناها مع أصحاب تلك المرجعية، وأزعم أن لي تجربة غنية معهم، امتدت من مدرجات الجامعة وملتقياتها وحواراتها ومظاهراتها إلى ردهات وأحواش السجون، ثم إلى رحابة ندوات ولقاءات المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي – الإسلامي.. وعشرات الحوارات والمشاركات في لقاءات وندوات ضمن فعاليات الحياة السياسية والفكرية المصرية.. وأشهد بضمير مستريح أن من بينهم علماء في تخصصاتهم ومثقفون بوجه عام لديهم أطروحات لا يمكن نظريا الاختلاف معها أو الخلاف عليها، ولكن وفي التجربة العملية، وخاصة بعد أن شاءت الأقدار وصولهم إلى مكامن السيطرة على الحراك السياسي المصري في ميدان التحرير والميادين الأخرى، ثم الجلوس على أريكة الحكم.. حكم مصر وبعض الدول الأخرى فإن ذلك "النظري" الذي لا يمكن الخلاف أو الاختلاف معه وعليه طوي ووضع على رفوف الذكريات وحل محله محتوى ومضمون آخر لحمته السيطرة والانفراد وسداه رفض الآخر ونفيه فكريا وسياسيا وحركيا، ثم تأتي الطامة الكبرى وهي نفي الوطنية كأرضية أساسية تنطلق منها أية مرجعية.. وعشنا وشفنا وسمعنا ورفضنا علنا ما قاله مرشدهم عاكف "طظ في مصر"!!.. ولذلك فإنني متأكد أن لدى أصحاب المرجعية الدينية المتأسلمة مفهوم مغاير للأمن الوطني والقومي ومضمون مختلف لما يجب أن يكون عليه تفكير وخلق ومسلك المسلم ذكرا كان أم أنثى.. وعليه فإن أي حديث عن الوطنية من منظور قومي أو ليبرالي أو ماركسي يحتم استبعاد ذوي المرجعية الدينية، ليس على أساس نبذ الآخر ونفي وجوده والعدوان عليه، ولكن على أساس أن الطرح الوطني لا يتسق مع قناعاتهم ولا أفكارهم ولا ممارساتهم والشواهد العملية المعاشة على ذلك كثيرة، قد يصعب حصرها ويكفي مثل صغير جدا هو الموقف من تحية العلم الوطني في طوابير الصباح بالمدارس!! ولقد أيقظ هذا السياق كثيرا من الأمور في ذهني، إذ تذكرت على سبيل المثال وليس الحصر حوارا تلفزيونيا جرى بين الطبيب عصام العريان وبيني على قناة "الساعة" وأداره الزميل النائب مصطفى بكري، واستمر على مدار ساعتين وأذيع في حلقتين، وكان ذلك الحور امتدادا لما سبق من حوارات بين العريان وبيني ولما تلى ذلك من حوارات، ولأن نص الحوار موجود على أسطوانات مدمجة ومحفوظ في أرشيف ما يعرف بـ"اليوتيوب" فلا مجال للتفصيل فيه، مثلما أنه لا مجال للاختلاق واصطناع ما لم يحدث، ومما حدث أن العريان عندما وصلنا لنقاش حادث المنشية الذي وقع عام 1954 وفيه حاول الجهاز السري للإخوان اغتيال جمال عبدالناصر وهو يخطب في ذلك الميدان، أنكر عصام العريان ضلوع الإخوان وأكد أن الأمر كان تمثيلية فبركها عبدالناصر ورجال الثورة لأجل الفتك بالإخوان، وبدأ الحوار يسخن لأنني سألته: "أنت كطبيب.. ألست تسأل المريض عن تاريخه وتاريخ أسرته المرضي لتحاول أن تجد ما يساعدك في التشخيص؟ وأجاب بالإيجاب.. بلى.. وسألته: بالنسبة للحالة الإخوانية أليس في تاريخها ما يثبت جنوحها للعنف ولسفك الدم وقتل الخصوم مثل الخازندار والنقراشي؟!.. ثم سألت: هل يمكن لبشر سوي النفس راشد العقل أن يتخيل شابا في السادسة والثلاثين من عمره، ويقود ثورة وبلدا بحجم مصر، ولديه أسرة صغيرة مكونة من زوجة وأربعة أولاد من بينهم ثلاثة يميزون ما يحدث أمامهم وما يسمعون، ثم يذهب ذلك الشاب إلى أن يستأجر أو يتفق مع من يحمل مسدسا بذخيرة حية ليطلق عليه النار وهو يعلم أن أسرته تتابع ما يجري لحظة بلحظة؟!.. وأسئلة أخرى وقبل أن ينتقل طرف الحديث للعريان كانت القناة التلفزيونية، أو مدير الحوار قد استدعى شاهدا معاصرا للواقعة ليتداخل في الحوار، وهو المغفور له المستشار فتحي رجب الذي قال إنه كان وكيلا لنيابة المنشية موقع الحادث وأنه هو من حقق، وأن المسدس كان حقيقيا والذخيرة حية قاتلة وأذاع حقيقة لم تكن معروفة على نطاق واسع وهي أن هناك اثنين من القتلى أو الشهداء في الواقعة أصابهما رصاص الجاني وذكر اسميهما!! وبعد كل ذلك وأثناءه كان العريان يبتسم وأحيانا يضحك والأخطر أنه ظل مصرا على أن الحادث كان مفبركا!!

وخلال سنين كثيرة كان الرجل يبدو دوما متفهما للتعددية وللتعاون بين التيارين القومي والإسلامي، وأنهم عازفون عن السلطة ولا مطمع لهم فيها.. ثم حدث ما لم أتوقعه، إذ سمعت الرجل وهو يقدم نفسه بعد يناير 2011.. عصام العريان رئيس مصر القادم!! ثم كانت الغطرسة والتعالي ومصادرة الآخرين من البلتاجي في ميدان التحرير ومن غيره في غير مكان، وما زلت أنفعل كلما تذكرت.. ما جرى بين عصام سلطان وبيني على شاشة القناة الأولى المصرية، عندما اضطر التلفزيون لقطع الإرسال.. وذلك حديث آخر.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 6 يونيو 2019.

Tuesday 4 June 2019

سناءات.. سناء البيسي





كل سنة وحضراتكم طيبون وفي أتم صحة وأسعد حال بمناسبة عيد الفطر، وعلى أمل أن تكون كل الحركات والسكنات والكلمات إضافة إلى ميزان الحسنات، وإن شاء الله يستحق هذا العيد أن نردد فيه كلمات الفذ أحمد رامي: يا ليلة العيد آنستينا.. وجددت الأمل فينا/ هلالك هل لعينينا.. فرحنا له وغنينا/ وقلنا السعد حيجينا... على قدومك يا ليلة العيد/ جمعت الأنس ع الخلان.. ودار الكاس على الندمان/ وغنى الطير على الأغصان.. يحيي الفجر ليلة العيد!!

وأن ننسى لو مؤقتا ما درجنا على ترديده كل عيد طيلة أعوام كثيرة تبدو بلا حصر قول المتنبي: عيد بأية حال عدت يا عيد... بما مضى أم بأمر فيك تجديد/ أما الأحبة فالبيداء دونهم.. فليت دونك بيدا دونها بيد، إلى أن يقول: يا ساقيي أخمر في كؤوسكما.. أم في كؤوسكما هم وتسهيد؟!/ أصخرة أنا، مالي لا تحركني.. هذي المدام ولا هذي الأغاريد؟!!

ثم إنني لحسن حظي آنست في الحي كتابا فيه نار ونور، فمكثت عليه لعلي أجد هداي، وكان أن وجدت بعضا غير هين منه، ولأنه نور فإنه يستعصي على القياس فلا أملك أن أعمد إلى أفعل التفضيل لأقول إنه من أحسن أو أفضل أو أقوى ما قرأت، ولا أملك أن أتجه إلى معايير النقد المتعارف عليها عند التعامل مع النصوص، لأنني ممن حاولوا مبكراً أن يدركوا الفرق بين الضوء وبين النور، ووجدت أن الأول- أي الضوء- يقاس "بالفولت والأمبير" والشدة والخفوت وغير ذلك، أما الثاني- وهو النور- فلا مجال إلا أن يغمرك ويتخللك وتعيشه غارقا فيه تتنفسه ومع كل نفس تتلاشى المسافات والحواجز والنتوءات بينك وبين غاية تحققك الإنساني.

في كتاب عالم اليقين جاءت حروف سناء البيسي نوراً، يدركه المتذوقون في لحظة إدراكه لهم، وقد يدور من حولها المستعقلون دون أن يقتربوا خشية أن يلفحهم لهيبها المتأجج!، وكنت طيلة رمضاء رمضان أقرب إلى عصفور يستزيد من جفنة الماء كلما استبد به القيظ.

ستمائة وخمسون صفحة، تحوي اثنى عشر فصلاً، والفصول أوراد يحوي كل ورد منها سراً إنسانياً فصيحاً لا غموض فيه.. وقد يحق لسائل أن يسأل كيف يكون السر فصيحاً لا غموض فيه؟!، وتأتي الإجابة من سناء كلمات سناء: "فروا إلى الله.. فروا منه إليه.. الفرار إلى الله يعني توحيده وتمجيده والتخلي في سبيله عن شهوات النفس وأهوائها، وفي ذلك أعلى مراحل التدين والعبادة" هل رأيت إذن كيف يكون الفرار اقترابا وقربى؟!!

وربما لأنني عشت في طنطا، صباي وشبابي المبكر ومازلت أذهب لأروي خلاياي التي كم هددها الجفاف، فأسير في الدروب "درب الأثر.. درب الأبشيهي.." وفي الشوارع "سعد الدين.. والحكيم.. وماهر.. والنحاس.. والقاضي وعثمان محمد والمدارس..".. وفي الحواري وهي بغير حصر، وأصعد طالعا باتجاه شيخ العرب، فإنني لبثت طويلا أقتبس من نور الورد السنائي المسمى "الله الله يا بدوي" ضمن الفصل المعنون "المفكرون".. وكدت أترنم بصوت مسموع ما كانت عيناي تعكس نوره: "والتصوف صدق التوجه إلى الله وعدم الافتتان والاستعلاء بما تأتيه من عبادة ونسك مما يهب صاحبه البصيرة.. والبصيرة ما خلصك من الحيرة.. والبصيرة تهب الفراسة.. والفراسة نور من الله يشع به القلب"، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله"!

والتصوف في الروح وجوهر الضمير ونور العقل، صاغ له أساتذته وشيوخه فلسفة ومناهج ومراحل ومنازل ومقامات وكل من كان أصلح عملاً كان أعلى مقاماً.. وعذوبة التعبير في التصوف تأتي في منهاجه: "خل نفسك وتعال.. تأتي لتكون منهاجاً وعظة ودليلا وسلوكا وسفراً إلى الله.. وفي درب التصوف من ذاق عرف.." إلى آخر ما سكبت سناء البيسي في سبيكتها النورانية!

وكما أسلفت فلست بصدد سجن النور في قلاع حرفة عرض الكتب ونقد النصوص وشرح المتون، وما استطعته هو الإشارة إلى ما تذوقته.. وفي التذوق تكفي "لحسة" واحدة من الإناء، وكثيراً ما أدت "اللحسة" الواحدة إلى الفرار، فرار الاقتراب والتوحد والانخلاع من البشرية!

وأختتم بما حدث صدفة، إذ كنت أقرأ قراءة مزدوجة أتنقل فيها بين سناء سناء، وبين تجليات "ميشيل شودكيفيتش" في كتابه "الولاية" الذي ترجمه الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، والكتاب شرح واف ومخيف لبعض نصوص الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.. وذلك حديث آخر.

كل عام وأنتم بخير.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 5 يونيو 2019.