Wednesday 14 December 2016

شعب الله المختار في إثيوبيا




أستكمل ما بدأته عن إثيوبيا معتمدًا على كتاب "كبرانجشت"، الذي ترجمه من اللغة الحبشية القديمة "الجعزية" الأستاذ الدكتور مجدي عبدالرازق سليمان، وأبدأ بحقيقة أنني ترددت كثيرًا في أن أستمر في الكتابة الصحفية بعد زلزال الكنيسة البطرسية، إذ عشت طويلاً مع المعنى القائل "السيف أصدق إنباءً من الكتب" لأنه في أوقات معينة تبدو الكلمة عقيمة لا تثمر تغييرا منشودا، خاصة مع من اتخذوا من كلمة أخرى جرابًا يستلون منه سيوفهم، وحزامًا ناسفًا يلفون به أجسادهم، وقد خف التردد شيئًا ما بعد أن أدركت أن التوقف يصب لمصلحة أولئك المجرمين.

ثم إن ثمة ارتباطًا وثيقًا بين الكلمة التوراتية عن شعب الله المختار التي اعتمدت عليها الحركة الصهيونية لحفز وتنظيم يهود العالم لبناء دولة دينية طائفية، وبين النمو السرطاني للحركات والاتجاهات التي اتخذت من نصوص واجتهادات إسلامية سندًا لعنفها وإجرامها ومشروعها لإقامة ما يسمى بدولة الخلافة، وفي هذا تفاصيل كثيرة سبق وكتبت وكتب غيري عنها، ولذلك فقد شدني بقوة ما جاء في كتاب "كبرانجشت" حول الاعتقاد الحبشي بأن شعب الحبشة هو شعب الله المختار.

ولقد تلقيت كثيرًا من التعليقات حول ما ورد في مقال الأسبوع الفائت عن التعريف بكتاب "جلال الملوك.. نصوص حبشية قديمة" ورأى بعض السادة الذين شرفوني بتعليقهم أن هناك احتياجًا شديدًا لمزيد من المعرفة عن إثيوبيا تاريخيًا وثقافيًا وإثنيًا، وكذلك عن عديد من دول الجوار في إفريقيا وفي الوطن العربي، لأن هناك واقعًا لا يجوز الاستمرار في تجاهله أو طمسه، وهو إحساس البعض في إفريقيا، وفي المنطقة العربية، بأن بعض المصريين- وربما كلهم- يمارسون نوعًا من التعالي والاستعلاء الحضاري والثقافي والإثني على الآخرين، وكلما كانت مصر مأزومة علا هذا المسلك، الأمر الذي يدفع الآخر لاستعلاء مضاد يأخذ المسار نفسه، ليصب الاحتقان المتبادل في الإضرار بمصالح كل الأطراف.. ولا أريد أن أستطرد في توضيح هذا الأمر حتى لا أنجرف بعيدًا عن الموضوع الذي أكتب عنه.

الأحباش هم شعب الله المختار- حسب معتقداتهم التي لن أستخدم وصفًا لها بـ"الأسطورة"، كما يصفها بعض المتخصصين- لأنني أعتقد أن وضع المعتقدات الدينية التي يؤمن بها أصحابها في إطار الأساطير ممن هم ليسوا من أتباعها يعطي كل الأطراف الحق في إطلاق الوصف نفسه على كافة المعتقدات المغايرة، بما في ذلك الإسلام والمسيحية والبوذية وغيرها!

والملوك الذين يتحدث عنهم الكتاب هم ملوك الحبشة المنتسبون إلى منيليك الأول بن سليمان بن داود، ملك إسرائيل من ملكة الحبشة، حيث إن الأحباش يعتقدون أن سليمان النبي الملك لم يتزوج ملكة سبأ- كما هو شائع في قصص مقدس آخر- وإنما تزوج ملكتهم، لدرجة أن المادة الثالثة من الدستور الإثيوبي الصادر في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي عام 1931 تنص على ما يلي: "يقرر القانون أن الشرف الإمبراطوري سيظل بصفة دائمة متصلا بأسرة هيلا سيلاسي الأول، سليل الملك سهلا سيلاسي الذي يتسلسل نسبه دون انقطاع من أسرة منيليك الأول بن سليمان ملك بيت المقدس وملكة إثيوبيا المعروفة باسم ملكة سبأ".

ومن زواج سليمان من الملكة الحبشية ولد منيليك ليشبه أباه تماما، لذا فليس غريبًا أن يكون هو ممثل مملكة داود الأرضية على عرش الحبشة في مقابل مملكة داود السماوية وعلى رأسها المسيح.

ويمضي الأحباش في معتقداتهم بأنهم شعب الله المختار عندما يعتقدون أن تابوت العهد الذي أعطي لموسى- عليه السلام- سرق وكان يطير طيرانا باتجاه إثيوبيا واستقر بها، وحيث إن التابوت في العهد القديم يصور على أنه مسكن الرب، وهو المكان الذي كان يكلم من خلاله بني إسرائيل من خلال "الكروبيم"، فإن ذهاب التابوت إلى الحبشة يعني أن الرب قد غادر أورشليم لأنها لم تحفظ وصاياه وعهده، وذهب إلى الحبشة واختارها من دون الأمم لأنها أقبلت عليه، ولذا ووفقًا لهذا الرمز يصبح شعب الحبشة هم شعب الله المختار، ويستند أصحاب هذا التصور إلى ما استقوه من العهد القديم من إشارات تؤكد ذلك.

ويمضي المعتقد الحبشي- وفق كتاب "كبرانجشت" أو "جلال الملوك"- ليؤكد أن المسيح هو الذي جاء إلى الحبشة محمولًا فوق التابوت إلى شعبه المختار، وازدادت قداسة التابوت لأنه من خشب.. من نوع الصليب نفسه الذي صُلب عليه المسيح، بل إن هذه القداسة تمتد ليكون التابوت خلاصًا لكل بني آدم من موسى إلى ما بعده، ويصبح كل ما هو من خشب كالصليب مقدسًا.. كمركب نوح وعصا هارون التي أفرخت زهرًا لأنها من خشب، حتى إن التابوت المسروق من أورشليم يدعوه مؤلف "كبرانجشت" صهيون، على أساس أن صهيون الأرضية مسكن الرب في الأرض التي يعلوها ملك الحبشة في مقابل صهيون السماوية في الملكوت الأعلى التي يعلوها المسيح له المجد...".

تلك مضامين اقتبست غالبها من سطور الدكتور مجدي عبدالرازق سليمان، واستهدف بها الوصول إلى أن ننتبه في مصر.. ينتبه أصحاب القرار من صناعه ومتخذيه، وينتبه من يساهمون في تكوين وتنوير الرأي العام وينتبه الجميع إلى أن يتعاملوا مع الآخر الإثيوبي أو غير الإثيوبي من خلال رؤيته لنفسه ومن خلال جذور ومسارات تكوينه، لأن الغلط في التعامل مع المكنونات الوجدانية للشعوب يستفز فيها أشرس غرائز الدفاع عن الذات الحضارية والثقافية والعقيدية، مثلما هو الهجوم على شخص أو حتى حيوان فإنه يستنفر أقصى طاقاته لصد الهجوم والحفاظ على وجوده.

ولقد وددت أن أستكمل استعراض النصوص التي وردت في أهم كتاب إثيوبي، وأن أستمر في الكتابة عن التكوين الحضاري والثقافي وكذلك الأصول الإثنية وما يرتبط بها من جوانب مختلفة تخص مكونات المجتمع الإثيوبي، حتى نصحح نظرتنا التي أظنها كثيرًا ما تصاب بالحول نتيجة خطأ الزاوية التي ننظر منها، غير أن مجريات الأحداث لا تترك فرصة لإبحار من هذا النوع، خاصة أن البعض قد يظنه هروبًا من الأحداث الجارية.
                              

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 ديسمبر 2016.

No comments:

Post a Comment