Thursday 3 July 2014

كفى.. بالله علينا جميعا

 
لوحة قراءة الخطاب للودفيج دويتش
كنت أنوى الكتابة عن مسألة «الخطاب الدينى»، حيث أذهب إلى أنه كما لا يعرف الإسلام دولة دينية ولا يعرف كهنوتا وليس فيه ما يسمى رجال الدين، فإننى أظن أنه لا يعرف خطابا دينيا بقدر ما يعرف الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وسبيل الله هو كل ما فيه مصلحة الأمة، لأنه حيثما تكون مصلحتها فثم شرع الله، ولكننى آثرت أن أؤجل تلك الكتابة، لأتحدث عن المسألة الأمنية التى باتت تمثل كابوسا ثقيلا يخنق الأمة كلها فى صحوها ومنامها ولا يجوز بعد ما جرى بالقرب من القصر الرئاسى فى الاتحادية، وبعد الاستشهاد المتصل لخيرة شباب مصر من ضباط شرطة ذوى رتب عالية، وكذلك جنودها أن نظل نقرض أسنانا ببعضها ويعتصرنا الألم ويفتك بنا الأسى دون أن نصرخ بأعلى صوتنا: كفى وعلى كل المستويات.

كفى إهمالا، لأننى وغيرى تابعنا ما نشر على الحساب الخاص بالجماعة التى تدعى «أجناد مصر»، وتحدثوا فيه بتفاصيل شبه دقيقة عن القنابل التى زرعوها وحذروا منها المدنيين، وقد تقدم بعض الصحفيين والإعلاميين ببلاغات إلى الجهات المعنية حول ذلك الذى نشر، ولكنه لم يؤخذ على محمل الجد إلى أن وقعت الواقعة وتبين أنه كان جدا لا هزل فيه.. كفى إهمالا واستهتارا بقيمة المعلومة حتى وإن كان احتمال الهزار فيها تسعة وتسعين وتسعة من عشرة فى المائة، وهنا أشير إلى أننى كنت فى مطار القاهرة عصر أمس الأول الثلاثاء، وحاولت دخول صالة واحد فى المطار القديم لاستقبال ابنتى القادمة من الإمارات، ولم يسمح لى بالدخول بحال من الأحوال، واحترمت فرد الأمن الذى أصر على أداء مهمته وجلست على الرصيف مع بقية خلق الله، ثم جاءنى من جاءنى وأراد أن يكرمنى بالدخول من الباب المجاور مباشرة للباب الذى منعت منه، ولما أوضحت أنه ممنوع جاءنى الرد المصرى التقليدى الظريف: ممنوع عليك يا باشا.. تعال.. ولم أذهب طبعا، واكتشفت أن الباب مخصص لدخول العربات المخصصة للحقائب بعد جمعها من أمام الصالة، وشاهدت بعضا ممن دخلوا وجلسوا فى التكييف! مع أن المنع كان مشددا لأسباب أمنية وغير مسموح حسب فرد الأمن إلا للواء شرطة أو لواء جيش!

كفى إهمالا يتبين فحشه فى النتائج المجهضة لكل الحملات الأمنية التى نشبت كحريق فى حشائش جافة، ما يكاد يتصاعد حتى ينطفئ، وهى الحملات التى استهدفت الانضباط فى وسط القاهرة والأحياء والمدن الأخرى تجاه الباعة الجائلين الذين لم يصبحوا جائلين، وإنما مستقرون يعرف كل منهم مكانه وحدوده، وأذكر أننى فى عزاء المرحوم الأستاذ محمود السعدنى منذ سنوات، كنت أجلس بجوار اللواء إسماعيل الشاعر، وطلبت إليه أن يتدخل فى الفوضى بشارع طلعت حرب، وبالفعل تدخل وتكرم بعدها بشرح الأمر حيث أوضح أن هناك مجموعات من المعلمين الكبار الذين يستأجرون شققا كبيرة فى مبانى وسط القاهرة يخزنون فيها البضاعة، ويأتى البياعون والبلطجية ويحملون البضاعة إلى النصبات الممتدة والتى يدفع فيها إيجارات بالآلاف المؤلفة.. يعنى الموضوع ليس مجرد شوية باعة يهتفون ويصيحون ويجرون شكل خلق الله ويتحرشون بالسيدات، وإنما الموضوع شبكات من معلمين كبار لهم نفوذهم خاصة فى شرطة المرافق وغيرها من الجهات المسئولة!

ثم كفى طبطبة على كل من لديه «نصبة» حقوق إنسان أو «محصور» فى خطاب ديمقراطى ليبرالى معاصر مستوفى الشكل وعميق المضمون، أولئك الذين عرفنا بعضهم من عتاة الماركسيين القامطين على النظرية أصولا وفروعا وعرفنا بعضهم من أشاوس الناصرية المستميتين فى حقوق قوى الشعب العاملة، ثم عاصرنا بعضهم وهم يذهبون إلى الأرض المحتلة وإلى المؤتمرات التى يشارك فيها أقطاب حزب العمل الإسرائيلي.. كفى طبطبة على من لم يضبطوا مرة واحدة وهم شقيانين فى كدح أو عمل، ولم يتسللوا لحظة واحدة إلى غيطان مصر وصحراواتها وأعماق صعيدها وريفها ليسهموا فى تحقيق حقوق الغلابة هناك.. ثم لم نسمع منهم ولا من الذين وضعوا لهم الأجندات ومولوهم على أساسها أى تنهيدة من جوف الصدر على أبنائنا الشهداء أولاد العمال والفلاحين والمهنيين وغيرهم من رجال الجيش والشرطة الذين قضوا نحبهم بالقنابل والألغام وقذائف الآر بى جى!

كفى تهاونا مع من أحرق شجرة خضراء فى فناء جامعته وأحرق مبنى ومكتبة ومعملا ومدرجا، وخلع أعمدة إنارة وسود الحيطان بالبذاءة والسباب وسعى إلى إفساد العام الجامعى وحرمان زملائه من التحصيل والنجاح، واتخذ مأوى من المدينة الجامعية التى يعيش فيها آكلا شاربا نائما معربدا بتراب الفلوس!

كفى تفريطا فى حق الوطن والأمة بالإبقاء على كل القيم والعادات المعطلة للتنمية والنماء والبناء وترك المهملين والكسالى والمرتشين، يعوقون أى محاولة للإصلاح فى أجهزة الدولة ومرافقها، ويجهضون أى سعى لتحويل حلم البناء والتقدم والاعتماد على النفس والابتكار والبحث إلى واقع يومى يتنافس فيه المتنافسون، ويبذل من أجله الخيرون من مالهم وجهدهم ووقتهم.

لقد قيل وهو قول صحيح: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.. يعنى إن قوة الدولة وبطش القانون وصرامة أجهزة الضبط والتحقيق والقضاء كفيلة بأن تحقق ما يعجز خطاب الدعوة والتوجيه والإرشاد والمحايلة والطبطبة عن تحقيقه!

ثم إننى سبق وأن كتبت عن المجالات التى يتعين على المتنافسين والمتحالفين والمفترقين فى الخريطة السياسية أن يولوها جزءا من اهتمامهم وحركتهم وجهدهم، لأن من احترف النشاط العام والمؤتمرات والندوات والحفلات وأدمن السعى للمناصب فى الوزارات والبرلمانات وغيرها، يبقى من زمرة النصابين ما لم «يرمى بياضه» من أجل الوطن، فتراه يتقدم صفوف أتباعه وأنصاره وكل من يهتفون له بالروح بالدم إلى مواقع عمل وطنى فعلي، يختارها بنفسه فى مواجهة هجوم البحر وطغيان الصحراء وشح المياه وندرة الموارد وطفحان المجارى وتكدس القمامة.. وهى كلها تصلح للتصوير فيها والدعاية من خلالها والتأكيد أن الأمر جد لا هزل فيه.. أما أن يبقى الحال هو مجموعات من البهوات والباشاوات الجدد ـ لأن من بهوات وباشاوات زمان من وضع نفسه وثروته وأسرته فى خدمة الوطن والأمثلة بغير حصر ـ الذين لا يجيدون إلا ما تجيده عواجيز الغجر «الأكل والنأورة» على رأى جدتى ، فقل على العمل السياسى السلام ويجب ألا نندم عندما نساق إلى مصائرنا غير السارة إذا ما دار الزمان دورته واستمر ما نحن فيه ليأتى الذين لن يخافوا الله فينا ولن يرحمونا.

كفى.. بالثلث للإهمال الأمنى لأن ما حدث عند الاتحادية هو صفعة لنا جميعا وليس للداخلية ولا للأجهزة الأخرى وحدها.
                                     

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 3 يوليو 2014

No comments:

Post a Comment