Thursday 26 March 2015

أكثر من «ليت»





كان بمنزلة جد أبى.. لحقته وهو مصاب بشلل نصفى أقعده، وكانوا ينادونه «على أبوصدر»، لأن صدره كان عريضًا بشكل لافت، ولتمييزه عن أكثر من «على» يحملون لقب العائلة، وكانوا يخرجونه من داره صباحًا ليتشمس فى الشتاء أو يتنسم الهواء البحرى فى الصيف، وكنت أحب الاستماع لحكاويه التى منها أنه باع محصول القطن ذات سنة وكان وفيرًا من نوع الكرنك، وأخذ فلوس القطن وارتدى الجلابية البلدى الصوف ذات القياطين وتلفح بالعباءة الجوخ، وخرج من البلد ومعه صديقه عثمان عمارة بفلوس قطنه هو الآخر، ومن البلد اتجها لكفر الزيات، ومنها بالمركب إلى روض الفرج حيث «المرسح» - أى المسرح - وحيث تغنى سلطانة الطرب منيرة المهدية.. وقال لى إنهما اتجها للمرسح وعلى رأسيهما اللبدة الوبر الطويلة، وجلسا يستمعان ولما استبد الوجد والانبهار بصديقه عثمان وقف الأخير وخلع اللبدة وعبأها بفلوس القطن فئة المائة جنيه أم مئذنة وبأقصى قوته وعلى آخر ذراعه قذف باللبدة وما فيها صائحا: «الله يا سلطانة.. أنا أبوالعصاميم شيخ رجالة الغربية والفؤادية»، ووقعت اللبدة تحت أقدام الست منيرة، التى بدت وكأنها لم تشعر بما جرى واستمرت فى الطرب، بينما ضجت الصالة بصوت بذيء خرج من أفواه المستمعين تعليقًا على هتاف أبوالعصاميم!

ثم يستطرد سيدى على: «وأيمانات المسلمين يا ابن بنتى كانت أمى بنت شقيقه وهو عم جدى لأبى أخرجوا صوت الريح من أفواههم وكأنهم كانوا متفقين مع بعض على عثمان.. ومن فورنا انصرفنا من المرسح متمنين ألا يرانا أحد».. كان يحكى بالعامية طبعًا.. ومنذ تلك الأيام والعبد لله يصادف كثيرًا من أمثال عمنا «أبوالعصاميم»، لأن عاميتنا تنطق الثاء صادا فى كثير من الأحيان فيصبح عثمان.. عصمان!

صادفت فى المرحلة الطلابية ومرحلة السجن ومراحل العمل العام من يعطى لنفسه أهمية يراها لذاته، وربما يخلع البعض على البعض الآخر ألقابًا يوزعونها بالتبادل، فهذا ينادى «يا ريس»، وذاك ينادى «يا زعيم» وذاك يروج له أنه «المناضل» وغيره أنه «المفكر والأستاذ» وهلم جرا، لتبحث عن شخص عادى فلا تجد لأنهم جميعًا أبوالعصاميم شيخ رجالة الغربية والفؤادية، وربما عموم القطر!

وآخر الصيحات فى هذا الاتجاه هى من يستلب لنفسه حقوقًا على المشاع.. فهو المرشح الرئاسى الأحق تاريخيًا وسياسيًا ونضاليًا، ولا عبرة عنده ولا عند الذين يدورون فى فلكه بشيء اسمه الصناديق ولا إرادة الناس ولا انقضاء الأدوار بدوران الزمان ولا بالمصداقية.. يعنى «هو كده».. وهو المتحدث الكونى باسم الشباب رغم أنه على مشارف العقد السابع، إن لم يكن بدأه فعلًا.. وتراه وقد تصدرت سحنته صدر صحيفة ما، تهالك مالكها تقلبًا بين الانتماءات السياسية، ولم يكتب له أى نجاح ولو فى نادٍ رياضي، وتقرأ أن المتشبب يوجه رئيس الدولة بأنه لا سبيل إلا المصالحة، فتظن أنه ما زال متوقفًا عند مرحلة سابقة هى مرحلة المصالحة مع الجماعة الإرهابية «الإخوان»، إذ بدأ بالاعتذار نيابة عن جمال عبدالناصر وتياره للإخوان عما يقولون إنه جرى لهم ظلمًا وعدوانًا، فيما الحقيقة الثابتة الناصعة الواضحة أنهم أرادوا التعشى بناصر وثورة يوليو فكان أن تغدى بهم، ثم توالت الاقترابات مع الإرهابيين وتعانقت الأيادى، إلى أن حدث التوسل إليهم ليسمحوا لبعض أنصاره بدخول البرلمان، حتى وإن كان المسموح به فتاتًا لا يليق لا بالزعامة ولا بالرئاسة ولا بالنضال ولا بالأستاذية.. غير أنك تكتشف أن دعوة المصالحة هذه المرة قد انتقلت من الاتجاه للإخوان الإرهابيين إلى التحدث باسم الشباب، يعنى أن هناك خصومة قائمة بين النظام الحالى رئيسًا وحكومة واتجاهًا وبين الشباب.. فإذا أردت أن تسأل من هم الشباب تحديدا.. وهل يوجد تفويض منهم وهل هو حزب الشباب أم تيار الشباب؟! لا تجد إجابة، يعنى «هو.. كده» أيضا، وعلى المتشكك أن يذهب ليسأل الشباب مثلما سأل السائل أحدهم: هل تستطيع أن تحصى النجوم فى السماء التى فوقنا؟ ورد ذلك «الأحدهم» فورا: «إنها عشرميت مليون».. وإذا لم تصدقنى اصعد وقم بتعدادها!»

والمصالحة عند القطاعات الواسعة من المجتمع من مختلف الأعمار - بمن فى ذلك الشريحة من قبيل العشرين سنة إلى قبيل الخمسين سنة، يعنى الشباب تقريبا- تعنى توفير حياة كريمة تكفل التعليم المحترم والصحة والسكن والعمل والخبرة.. يعنى مشاريع عملاقة وكبيرة ومتوسطة وصغيرة، يعنى ما يتم فى قناة السويس وشرق التفريعة وما سيتم وفق أجندة التنمية التى بدأت بالمؤتمر الاقتصادي، وبالتالى لن يكون هناك وقت فراغ للدوشة فى الشوارع والنواصى وغيره من مطالب الفئة «العصاميمية!»

إننى أعلم يقينا أن حقوق المواطنة الكاملة التى كفلها الدستور ونظمها القانون يجب ألا تكون مجالا للمطالبة ولا للمزايدة، وأنه على الدولة والنظام كفالتها والمسئولية عنها حتى يمضى البلد فى طريق تنميته وتقدمه، محصنًا بتلك الحقوق مفعلا كل الواجبات، ومع ذلك أعلم أيضا أن هناك من سيصرخ: «اِلحق.. هؤلاء هم عبيد السلطة وخدم البيادة، الذين تمكنت العبودية من عقولهم ووجدانهم، ويبحثون عن المكاسب والامتيازات ويؤثرون السلامة الشخصية على حساب سلامة الوطن وكرامته».

ومع ذلك، ولأن الصدفة وحدها شاءت أن يقترب كاتب هذه السطور لحقب ممتدة من تلك العينة.. عينة «أبوالعصاميم».. بل والأنكى أننى كدت لفترة أن أكون واحدًا من تلك العينة، ولبست السلطانية بالفعل، ولكن الكرم الإلهى ورضا الوالدين ساعدانى على أن أخلع السلطانية منذ زمن طويل، ولم يسلم جلدى من خمشات ضارية، ليس هذا مجال تفصيلها!

فليتركوا الشباب يتحدث عن نفسه، وليساعدوه على أن يتوجه إلى مشروعات البناء فى القناة من بورسعيد للسويس وفى البحر الأحمر.. أو يناشدوه أن يتجه للمساهمة فى مواجهة مخاطر الطبيعة التى تهجم على المحروسة الآن من البحر ومن الصحراء، وليت المصالحة تتم مع الوطن.. أرضه ونهره وبحره وريفه وباديته وحضره.. وليت أى «عصمان» من «العصاميم» يظهر نصف عارٍ وبيده مغزله ومن ورائه عنزته.. مثل غاندى.. ليعلن أنها ساعة للعمل والعرق وليست دهرًا للزعيق والمزايدة واستلاب الأدوار.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 26 مارس 2015

No comments:

Post a Comment