Tuesday 21 April 2015

السودان.. على هامش حوار نيوتن وحيدر!

 


كثيرا ما رددنا فى مصر عبارة نعبر بها عن أملنا اللا محدود فى نهضة عربية شاملة، يكون أساسها بناء دولة واحدة فى المثلث الذهبى، الذى هو مصر وليبيا والسودان، ثم نبدأ فى الشرح بتلك العبارة: «إن مصر تملك العلم والخبرة واليد العاملة، وليبيا تملك النفط والفوائض المالية، والسودان يملك الأرض الزراعية الشاسعة والموارد المائية والطبيعية الوافرة»!

نرددها ولا نلتفت إلى الأثر السلبى الفادح الذى يترتب عليها حتى بين أنصار الفكرة فى البلدين، لأنهم ببساطة يرون تضخما فى الذات المصرية، وربما جهلاً وسطحية عندما يتم الحديث عن ليبيا والسودان واختزالهما فى الموارد الطبيعية والطاقة والأموال، وكأنه لا شعب ولا بشر هناك!

ثم إن الأمر يبدو أكثر فداحة عند السودانيين بوجه خاص، لأننا نزيد الطين بلة أو البلل طينا عندما نستمر فى ترديد ما نظنه حقيقة خالدة تعبر عن علاقة مصر بالسودان، إذ نقول إن السودان يمثل خلفية لمصر ملتصقة بها، وأنهما كانا بلدا واحدا حتى حدث الانفصال فى عهد حكم 23 يوليو! ويعتبر بعضنا أن السودان كان محافظة مصرية!! وربما يتفاقم الأمر أكثر عندما يتم حديث المصريين وحتى المثقفين منهم عن السودان بصيغة المؤنث، وكذلك العراق ولبنان والأردن واليمن!!، مع أن كل هذه الدول أسماؤها مذكرة!!

أذكر ذلك وسأستطرد فيه بعدما تابعت الحوار الحاد بين نيوتن والدكتور حيدر إبراهيم، بعد أن كتب الأول فى عموده بـ«المصرى اليوم» ما رأى فيه الثانى تجاوزا وخروجا حول السودان، إذ ضرب به المثل فى الانحدار الحضارى!

أما نيوتن فقد بادر بالاعتذار فى تعقيبه على رسالة الدكتور حيدر، ولكنه زاد «البلل» عندما أشار إلى أنه يعتبر السودان محافظة مصرية، وهو ما يحمل معنى إلحاق السودان بمصر واعتباره جزءا منها. أما الدكتور حيدر فهو صديق قديم وأستاذ جامعى ومفكر سودانى مرموق، ومن أبرز الأكاديميين الذين سعوا باستمرار لردم الفجوة بين العلم والبحث العلمى والمنهج الأكاديمى وبين الممارسة السياسية، وكان ومازال من أشد المدافعين عن الحريات والممارسة الديمقراطية والمناضلين الذين دفعوا الثمن من أجل الثبات على مواقفهم!

ولقد بادرت بعد مكالمة من الصديق المشترك المهندس نبيل مرقس بالاتصال بالدكتور حيدر لأطيب خاطره الثائر الغاضب من موقف بعض النخبة المصرية المتعالى غير الموضوعى، ولأجل أن أخفف عنه ذكرته بالنكتة التى يتداولها السودانيون عندما سأل أحدهم زميله: يا زول- يا رجل- كيف إخواننا المصريين ما قادرين يفهمون السودان فهما صحيحا بتاريخه وتكوينه وواقعه ومزاجه وثقافته، مع أنهم أصحاب آلاف السنين حضارة وبنوا الأهرامات وأنجبوا أم كلثوم وعبدالوهاب وغيرهما؟! ورد زميله: والله يا زول أنا مستغرب أنك لا تعرف السبب!! وسأله الأول: شنو السبب؟! فرد صاحبه: أبدا بسيطة لأننا نتبول فى النيل وهم يشربون منه!

وفى التراث السودانى المتطرف نسبيا كلام عن «الحمرة اللى أباها المهدى» أى لون جلد المصريين والإنجليز الفاتح والذى رفضه محمد أحمد المهدى قائد الثورة المهدية.. وكلام آخر عن «الملك نمر» وقدرته على هزيمة الحملة المصرية.. وكلام ثالث عن حرص بعض السودانيين على الاحتفاظ فى منازلهم بالأصفاد التى كان يكبل بها المخطوفون من السودانيين ليباعوا ويشتروا فى أسواق العبيد وكان النخاسون من بعض المصريين!

خلاصة الكلام فى هذه النقطة أننا إذا مددنا أيدينا فى الوعاء السيئ الذى يحوى سلبيات العلاقات التاريخية بين البلدين فسوف نجد مادة خصبة يمكن استدعاؤها عند لحظة الاحتقان، مثل اللحظة التى التقط فيها الدكتور حيدر ما كتبه نيوتن الذى لا أظنه عمد إلى إهانة الشعب السودانى، لأنه بادر إلى الاعتذار مباشرة ولم تأخذه- كما كتب- العزة بالإثم!

ثم إن بعض المصريين وخاصة من خصوم ثورة يوليو وعبدالناصر لا يفلتون مسألة انفصال السودان عن مصر، ويعتبرونه جريمة كبرى وقعت فيها الثورة وتضاف إلى جريمة احتلال سيناء بعد 1967، يعنى أن مصر عندهم قبل الثورة كانت تمتد من البحر المتوسط شمالا إلى ما بعد خط الاستواء جنوبا، ومن حدود فلسطين شرقا إلى حدود ليبيا غربا، ثم كان ما كان بعد 1952! وعبثا تحاول الحديث عن أن يوليو وعبدالناصر كانا من أبرز من طرح قضية التحرر الوطنى وحق تقرير المصير للشعوب، وأنه كان لا يمكن مع تنامى النزوع السودانى الوطنى أن ترفض مصر حق الشعب السودانى فى تقرير مصيره، وكان الاستفتاء على ذلك لتجىء النتيجة مع الانفصال!.. ولا أريد أن أستطرد فى مناقشة الإجابة عن سؤال هو: هل كانت مصر الملكية تحكم السودان وتسيطر عليه كجزء منها فعلا فى ظل الاحتلال البريطانى؟ ثم العبارة التى قالها المهدى عندما قرر قبل ثورة يوليو أن يتفاوض مباشرة مع الإنجليز وليس المصريين فقال: أريد أن أتعامل مع راكب العربة وليس مع الخيول التى تجرها!

ما علينا من الماضى وجراحه وخلينا فى الحاضر وإذا استطعنا المستقبل، وهنا لا يمكن الحديث بشكل مفيد إلا إذا توفرت لدى النخب المصرية بمختلف أطيافها واهتماماتها قاعدة المعلومات عن السودان، بتاريخه وتكوينه وثقافته وفنونه ومزاج أهله، وعن إمكانياته ومدى قابلية الأوضاع هناك وهنا لتداخل المصالح وتقسيم العمل وخلافه، لأننى أعتقد أن غياب هذه القواعد المعلوماتية عن جيران مصر غربا وشرقا وجنوبا هو الذى أدى إلى التأخر المعيب والخطير فى تحقيق التكامل بين أركان المثلث الذهبى، السودانى الليبى المصرى، وأيضا مع بقية الجيران فى الجزيرة العربية وبلاد الشام!، وفى هذا السياق ــ سياق نقص المعلومات ــ أذكر وأود التذكير بأن عاملا مهما من عوامل هزيمتنا أمام العدو الصهيونى تمثل فى نقص المعلومات عنه، ولذلك بعد 1967 أنشئت مراكز الدراسات المعنية بالشأن الإسرائيلى والصهيونى واليهودى، وانتعشت الدراسات فى أقسام العبرى بالجامعات المصرية.. ثم تطور الأمر إلى وجود رموز نخبوية من الباحثين والخبراء والأدباء يطالعون ويسعون وينفذون التواصل مع الدولة العبرية ومجتمعها، ويصبون جام غضبهم على مخالفيهم، لدرجة اتهام من يرفض التطبيع والتواصل العميق مع المجتمع الصهيونى بأنه جاهل ومتعصب بل مريض نفسيا!..

وهنا دعونا نتعامل مع السودان وليبيا وبقية الجيران على النحو الذى يطالبنا به البعض تجاه الدولة العبرية.. وهنا أعلم أن هناك منهم من سيقول إننا يمكن أن نستفيد من الصهاينة فى العلم والبحث العلمى وتطبيقاته وغيره، فماذا يمكن أن يقدم لنا بقية الجيران قياسا على أهمية ما تقدمه العلاقة مع الدولة العبرية؟!

هنا أتوقف لأن الإجابة تحتاج أضعاف هذه المساحة، ويكفى أن أعود إلى العبارة الأولى فأقول: لأن النفط والفوائض المالية والأراضى الزراعية وغيرها من الموارد الطبيعية موجودة لدى جيراننا، ناهيك عن الشعوب فى هذه الدول.. أولئك الذين يحبون مصر وتربطهم بها أواصر لا حصر لها، ولديهم تراث حضارى وعمق ثقافى، وأيضا خبرات بشرية لا يستهان بها فى أكثر من مجال، ناهيك عن أن السودان تحديدا هو المقدمة الحضارية والثقافية لمصر وللعروبة والإسلام باتجاه القارة الإفريقية، وكان وسيبقى الجسر المتين الذى جسد هذه الحقيقة.. وإضافة لاعتذار نيوتن أقول للدكتور حيدر: حقك على راسى!
                        

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 21 أبريل 2015.

No comments:

Post a Comment