Thursday 24 January 2019

التشكيل العصابي





امتنعت أن أستخدم لفظ "كتيبة" أو "فصيلة" أو حتى "جماعة"، لأنها ألفاظ ارتبطت بالجيش الذي هو تكوين وطني بالغ السمو في سعيه وفي مبتغاه.. لذلك كان أقرب وصف هو أنهم "تشكيل عصابي" لا يتوانى عن المهمة التي أوكلت إليه أو أوكلها لنفسه، وهي اغتيال شخصية جمال عبد الناصر.. واغتيال كل إنجاز وطني شهدت له البشرية.. ثم أن يكون هذا الاغتيال رسالة موجهة عمدا وبسبق إصرار وترصد للنظام السياسي المصري القائم الآن.. ولأن المجرم- رغم ما يبدو لديه من جسارة- خسيس جبان سرعان عند أول زوج من الصفعات ما يقر بما فعل ويتطوع بالإقرار بما لم يفعل، فإنهم يخشون إرسال رسائل مباشرة لمن يريدون إبلاغه، وإنما أساليب التورية والإسقاط، حيث يؤدي التهجم الإجرامي على ناصر إلى تهجم ضمني على تصدي الجيش للتغيير، ويؤدي التهجم الأكثر إجراما على السد العالي إلى تهجم ضمني على قناة السويس الجديدة، ويؤدي التهجم الفاحش على كل المشروعات العامة والقطاع العام إلى تهجم ضمني على الدور المعاصر للجيش في إنجاز النهضة الجبارة التي نعيشها هذه الأيام.

هو تشكيل عصابي إجرامي له شبكة اتصال قوية لا تعتمد الاتصالات السلكية أو اللاسلكية أو العنكبوتية، بقدر ما تعتمد على توقيتات شفرية معلومة، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، يكون التهجم على السد العالي وعلى ناصر في يناير بمناسبة وضع حجر أساس الأول وميلاد الثاني.. ويكون فبراير هو للتهجم على ناصر وعلى الوحدة العربية والقومية كمبدأ، عبر إخفاق الوحدة المصرية – السورية، ويكون مارس هو للتهجم على ناصر وعلى محاولة التصحيح ببيان 30 مارس وهلم جرا، حتى نصل إلى يونيو، فيكون التهجم على ناصر عبر الهزيمة ولطمس الصمود في 9 و10 يونيو وفي يوليو يستمر التهجم عبر إدانة الثورة وتعظيم العهد الملكي والاحتلال إلى آخر المناسبات!

وبعد موجة التهجم في 2018 بمناسبة مئوية ميلاد ناصر، تأتي موجة التهجم في 2019 على السد العالي، فتقرأ في الأهرام.. وبعدها في المصري اليوم وصحف أخرى لأعضاء التشكيل أنفسهم الكلام نفسه الذي بدأ منذ 1971 ولم يتوقف.. أسطوانة مشروخة لا تكف عن الدوران المشخشخ المزعج بأصوات كان بعضها هو نفسه الذي أنشأ قصائد المدح ومقالات العظمة في ناصر والثورة والسد العالي.. أصوات كان منها على سبيل المثال وليس الحصر، إبراهيم الورداني وصالح جودت وجلال كشك وغيرهم، نتمنى لهم الرحمة، ثم توالت أصوات أخرى في أجيال التشكيل نفسه، أتوقف عن ذكر الأسماء حتى لا أحرج الناشر، إلى أن وصلنا لظاهرة التوريث في التشكيل والمهمة، حيث كان أحدهم رئيسا لمجلس إدارة ورئيس تحرير مجلة أسبوعية شهيرة وكان يتباهى بأن المصححين يعكفون على تصحيح مقاله القصير عدة أيام، وتقاعد ليعود في صحيفة قومية توقف النشر له إثر مقال مارس فيه سفالته بتوضيح معنى C.C"" في اللغة الإنجليزية، ثم ها هو سليله يستكمل المهمة أو يكررها بتهجمه غير الموضوعي على السد العالي، دون أن يتوقف لحظة أمام فداحة تأثيرات سد النهضة الأثيوبي على مصر، فيما لو لم تكن بحيرة ناصر موجودة!.. وبعدها بأيام يلتقط كائن فيروسي الخيط فيعيد التهجم في المصري اليوم، إنه تشكيل عصابي منحط ومن ستر الله اللطيف الخبير أنهم نشاز، ثبت أن آذان شعب المحروسة تلفظه من أول شخشخة!

ومع التهجم على السد العالي ومن بناه وعلى كل إيجابيات ثورة يوليو، تظهر فقاعة سامة أخرى في المصري اليوم، تطالب بإلغاء الانتماء العربي لمصر ابتداء من إسقاط وصف العربية عن اسمها.. والمطالبة بإسقاط العلم الوطني الحالي ليستبدل به علم العصر الملكي.. وليكشف التشكيل العصابي عن بقية تكوينه مرحلة بعد مرحلة.. الأمر الذي أعتبره ظاهرة إيجابية، كي تظهر الخلايا النائمة في هذا التكوين.. والعجيب أن من كتب مناديا بإسقاط علم مصر الحالي طبيب أسنان فاشل احترف السياسة ولديه قضايا مالية ومحترف للاقتراض من أصدقائه دون رد.. يعني نصاب محترف!

وبدون أي نزوع للتفسير التآمري، يأتي هذا التهجم على العلم الوطني وعلى انتماء مصر العربي، ليثبت أن أصحابه ليسوا مخالفين للدستور وفقط وإنما هم أيضا يستكملون إرسال الرسالة للنظام الحالي الذي أعطى مفهوما واضحا محددا لعروبة مصر وانتمائها الإقليمي، وحكم هذا المفهوم بالمصلحة المصرية أولا وآخرا.

قبل أن أنتهى، ربما يعن لأحد أن يسأل: هل يحتاج ذلك التشكيل العصابي الإجرامي لهذا العناء في الرد واستهلاك الوقت والمساحة المتاحة للنشر؟ وأجيب من فوري: نعم إنه لا يستحق بحد ذاته.. ولكن خناجره تخترق جسد الوطن، ومن ثم فلا مجال للصمت أو التجاهل.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 24 يناير 2019.

No comments:

Post a Comment