Wednesday 24 April 2019

آل ميديتشي.. وآل عثمان





لا تجوز الفرضيات في علم التاريخ، بمعنى أن كلمة "لو" غير واردة... ولا يجوز كذلك عقد المقارنات بين السياقات التاريخية في أماكن وأزمنة مختلفة، أو حتى بين مجتمعين أو مكانين في زمن واحد، لأن لكل سياق ظروفه الخاصة التي تحكم مساره، ولذلك أجد نفسي واقفًا عند التأمل ومحاولة استيعاب الدروس عندما كنت في فلورنسا، ضمن الرحلة التي أشرت إليها في مقال سابق، ووقفت أتأمل معالم المدينة التي قادت حركة النهضة في إيطاليا، ومن بعدها انتشرت في أوروبا، واسترجعت المرحلة التاريخية نفسها عندنا في مصر والشام، حيث كانا دولة واحدة معظم الوقت في الفترة المملوكية قبل الغزو العثماني وكانا في ازدهار ونهوض اقتصادي ومعماري واضح.

وبالطبع لن أقع فيما أحذر غيري منه، ولن أضع فرضية تقول ماذا لو لم يقم الأتراك العثمانيون بغزو الشام ومصر وبقية المنطقة.. وماذا لو كنا مضينا في سبيلنا الذي أسسنا له وواجهنا أقدارنا، حتى مع وجود تهديد الطلعات الاستعمارية الأوروبية المبكرة من البرتغال وإسبانيا..، وماذا لو لم يجرف العثمانيون خيرة حرفيي مصر والشام وأسطواتها واحتجزوهم في بلادهم ليستخدموهم في بناء قصورها ومساجدها؟! أسئلة افتراضية بغير حصر، قد تجوز في علوم اجتماعية إنسانية أخرى غير علم التاريخ!

تأملت كيف لعبت "الصدفة الموضوعية"– كما وصفها الراحل محمود أمين العالم– دورها في أن يولد معظم فناني وعلماء عصر النهضة الأوروبية، الذين ساهموا بعد نضجهم في إنجاز معالمها قبيل غزو الأتراك العثمانيين للشام ومصر، إذ احتلوا الشام بعد معركة مرج دابق في أغسطس 1516، واحتلوا مصر في يناير 1517! وهنا أتأمل كيف أن الفنانين والعلماء الذين بنوا صروح النهضة في فلورنسا أنجزوا ما أنجزوه في غضون تلك الفترة، فها هو رافائيل يبدع حتى يموت سنة 1520، وساندرو بوتيتشيلي ولد 1445 وتوفي 1510، وتيتيان 1490-1576، وبييرو ديلا فرانشيسكا 1416- 1492 والمعماري فيليبو برونيسكي 1377- 1446، أما أنجلو "ميكيلانجيلو بوناروتي"، فعاش من مارس 1475 إلى فبراير 1564، وليوناردو دافينشي الرسام والمهندس وعالم النبات وعالم الخرائط والجيولوجي والموسيقي فقد ولد 14 إبريل 1452 وتوفي 2 مايو 1519.. يا إلهي.. ففيما كان الغازي العثماني الذي لا يعرف سوى الكر والفر والحرب والخازوق، ولا يعرف من الإسلام سوى أن من بنى مسجدًا كان له بيت مثله في الجنة، يعصف بالتكوين الحضاري في الشام ومصر، كانت أسرة ميديتشي تبني المكتبات وتزودها بالكتب والمخطوطات وتجلبها من كل الأنحاء، ووصل الأمر بالأمير لورنزو العظيم أو الفخم، لأن يعلن أنه لو تطلب الأمر أن يبيع أثاث منزله ليستكمل بناء المكتبات في توسكانيا وفلورنسا فسوف يفعل!

ثم تأملت أيضًا كيف ضافت واستحكمت حلقاتها على الشام ومصر، إذ تم إتمام اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في الفترة نفسها، وكانت الصدفة أن فاسكو دا جاما ولد 1460 وعاش حتى 1524 فينتهي تأثير مرور التجارة من الشام ومصر، وندخل في ركود هائل، فيما الجانب الآخر من المتوسط أي الشمال يركض في نهضته لأن التجارة انتعشت وانتهى تمامًا عصر الإقطاع وتبدد ظلام العصور الوسطى، واستطاعت المجتمعات هناك أن تتجاوز صدمة سقوط واضمحلال الإمبراطورية الرومانية على يد المتبربرين ، بل إن من سلالة هؤلاء الرعاة المتبربرين جاءت أسرات مثل الميروفنجيين والكارولنجيين، الذين كان منهم الرجل الذي غيّر مجرى التاريخ السياسي الأوروبي، وهو شارلمان الكبير، الذي رفض أن يتوّجه بابا روما فانتزع التاج من يد البابا، ووضعه على رأسه بيديه هو نفسه، ونبتت نبتة فصل الكنيسة عن الدولة.. وتحقق بالفعل أن ما لقيصر لقيصر.. وما لله لله!

وعلى الجانب الآخر، أي جنوب المتوسط وشرقه، كان الأتراك العثمانيون قد استقر احتلالهم لبلادنا، رغم المقاومة القوية التي قادها طومان باي واستشهد، ولأن الأتراك العثمانيين لا يعرفون العربية لغة القرآن والسنة والفقه، بوجه عام، ولا يعرفون شيئًا عن علوم الدين وأصول الفقه، ولا عن العقائد والعبادات والمعاملات، أي جوهر الدين والتدين الصحيح، فقد ركن سلاطينهم إلى بعض علماء الدين– إذ ليس في الإسلام رجال دين- فإذا بالعلماء الذين يعرفون أن الجميع يؤخذ منه ويرد عليه ووارد أن يخطئ ما عدا الرسول المعصوم، صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم استنادًا إلى احتياج السلاطين الأتراك لهم تحولوا إلى رجال دين، واستمر الانحدار حتى وصل الأمر إلى تجاهل الأصل وهو القرآن والسنة، واعتماد آراء الفقهاء الذين لم يجدوا من يردعهم، أو يطالبهم بإعمال عقولهم وبذل جهدهم في استنباط الأحكام من أصولها الحقة، فاعتادوا الكسل الذهني وأنزلوا متون أسلاف مذاهبهم منازل التنزيه والتقديس، ولم يجرؤوا إلا على كتابة الحواشي "الهوامش" على تلك المتون، وعمدوا إلى التعقيد والمبالغة في تصوير أن الفقه والتفسير وغيرهما أمور يستعصى فهمها على بقية الناس، وفي السياق ذاته أصابهم التعصب لمذاهبهم، وكانت معارك أقرب للحروب بين الأحناف والمالكية والشوافع والحنابلة.. أيهم يكون لمذهبه المرجعية في شؤون المجتمع والحكم.

وربما يكون للحديث صلة.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 24 أبريل 2019.

No comments:

Post a Comment