Thursday 15 August 2013

سبوبة الدعوة‏!‏




مع نمو نسبة المتعلمين وتناقص نسبة الأمية الهجائية ومع الطفرة الهائلة في وسائل الإعلام والاتصال ونقل المعلومات‏..‏ أي عشرات الموجات الإذاعية والقنوات الفضائية وإنترنت مفتوح بلا حدود وفيس بوك وتويتر وما شابههما ثم عشرات الصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية، فإنني أسأل عن أهمية وضرورة وجدوي وجود وإنشاء ما يسمي بالجمعيات الدعوية الدينية.. سواء لدي المسلمين أو لدي المسيحيين!

أسأل لأننا اكتوينا من الزبادي ومن الشوربة معا، وثبت أن معظم هذه الجمعيات، إن لم يكن كلها، ليس له لزوم أصلا في المجال الذي يدعون أنهم يعملون لأجله.

لقد رفض الإخوان المسلمون إشهار أنفسهم كجمعية لسنين طويلة، وعندما جلسوا علي كرسي الحكم في مصر وأصبح منظرهم مشينا لأنهم يحكمون ويخالفون القانون دخلوا أروقة وزارة التضامن وخلصوا الموضوع في24 ساعة بينما غيرهم ينتظر بالشهور.. ومع ذلك ورغم ادعائهم بتقنين وضعهم لم يتوقفوا لحظة عن ممارسة الفعل السياسي في الداخل وفي الخارج، وتشهد الرسائل الأسبوعية للمرشد المستمرة حتي الآن علي ما أذهب إليه.

لقد مثل الإخوان النموذج الأفدح للانحراف بما يسمي بالعمل الدعوي إلي أعمال أخري تمتد من ابتزاز الفقراء للاستيلاء علي أصواتهم ومن تجارة التجزئة إلي الجملة إلي البنوك إلي حمل السلاح وتنفيذ الاغتيالات عبر جهاز سري مسلح داخل الجماعة وليس انتهاء بالعمل السياسي العلني والسيطرة علي مقاليد الحكم.. إضافة إلي ما هو أخطر، وأعني به الامتدادات الخارجية فيما يسمي بالتنظيم الدولي وبث الخلايا اليقظة والنائمة في دول أخري، وأيضا استدعاء الأجنحة المسلحة الخارجية عند اللزوم كما يحدث في سيناء الآن! وبعد ذلك يأتي منهم من لا يستحي من ترديد أنهم جماعة دعوية تدعو إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة.. ويأتي أيضا من يتكلم عن الإبقاء علي الجماعة لتقتصر علي الدعوة فقط.. وكأني بذلك المتكلم يقول بالإبقاء علي النار بشرط ألا تحرق وأن تنزع عن نفسها الحرارة!

لقد تحول ما يسمي بالعمل الدعوي إلي سبوبة هائلة للقائمين علي جمعياته، وحدث ولا حرج عن تأشيرات الحج وعن تكاليف رحلاته التي صارت أعجوبة من أعاجيب الدهر لأن الإعلانات تتكلم عن حج عادي وآخر خصوصي وثالث سياحي ورابع فاخر وخامس سوبر وسادس سوبر السوبر.. والعداد شغال فيما الوطن يئن من ديونه ويئن من انخفاض مستوي المعيشة لدي غالبية سكانه! ثم حدث ولا حرج عن مستوصفات ومدارس كلها إسلامية ـ سبحان الله ـ لكنها لا تتقي الله في شيء علي الإطلاق، ابتداء من قهر اليتامي كما شاهدنا الجمعيات الخيرية والدعوية التي أرسلت اليتامي قهرا ليصبحوا دروعا بشرية لبديع والبلتاجي والعريان وحجازي وغيرهم، وليس انتهاء بإشاعة الخلط والغلط في فهم دين الله.

ثم تعالوا نسأل أنفسنا عن أولئك الذين احترفوا أن يطلقوا علي أنفسهم كبار الدعاة، وتجدهم تقريبا متشابهين في استخدام زعدة الشغلس التي عادة ما تكون غترة خليجية مسدلة علي الرأس وتتدلي أطرافها علي الجانبين، ولحية مستطيلة ـ من شدة الطول ـ وغالبا ما تكون مخضبة بصبغة ما وشارب حليق ونظارات فخيمة تزيد من قوة العينين لتجذبا الرائي وتفحصاه بدقة في الوقت نفسه، وجلابيب فخمة النسيج بأكمام ذات أزرار ثمينة، وقدرة هائلة علي النحنحة وإبراز مخارج الحروف وترويع السامع إذا فكر لحظة في المناقشة أو الاعتراض.. نسأل أنفسنا كيف كانت غفلة الزمن التي سنحت لهم وسمحت بأن يظهروا وأن يملأوا الدنيا ضجيجا وأن يحلوا محل العلماء الثقاة الدارسين في الأزهر الشريف.. وهل كان من وراء ذلك سيادة ثقافة الغالب النفطي علي ملايين المصريين الذين شاءت ظروف بلدنا أن يذهبوا لكسب عيشهم ويعودا بثقافة مغايرة لثقافة وطننا المتوازنة الوسطية التي عشنا بها مئات القرون؟!

نحن إذن أمام ظاهرة استفحل خطرها وثبت أنها تهدد الوطن علي جميع الجوانب الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية وأيضا الأمنية والإستراتيجية.. ويكفي أن أسوق مثالا علي التهديد الأمني الإستراتيجي وهو أن بعض المدارس التابعة لتلك الجمعيات الدعوية ترفض تحية العلم باعتباره رمزا وثنيا وبدعة وضلالة وترفض الوقوف للسلام الوطني وحفظ الطلاب النشيد الوطني، وتكرس التعصب ورفض الآخر المصري الذي يدين بدين آخر! أليس ذلك خطرا أمنيا وإستراتيجيا إذا مددنا خيط الزمن وأصبح طلاب تلك المدارس ضباطا في الجيش والشرطة أو من العاملين في الأجهزة السيادية، بل وفي مهنة التدريس نفسها؟!

وبالله علينا جميعا هل تحتاج مجتمعات دخلت الإسلام واعتقدته ونفذته وصار من المكونات الرئيسية لمكنونها الحضاري والثقافي إلي من يدعوها لهذا الدين من جديد؟!

أليس الأولي بالدعوة مجتمعات أخري تدين بأديان غير سماوية.. يعني لو حضرات الذين يسدلون الغترة ويطلقون اللحي يريدون الجهاد في سبيل الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فليتوجهوا إلي الهند والصين ومنغوليا وما يماثلها مثلما فعل الرواد الأوائل الذين انطلقوا بتجارتهم وأنفسهم كنماذج محترمة للمسلمين إلي إندونيسيا وماليزيا وغيرهما وأدخلوا الإسلام إليها دونما أموال متدفقة وقنوات فضائية وغيرها! إن أي مسلم يقرأ بالعربية يستطيع أن يصل إلي كتاب الله وصحيحي البخاري ومسلم وبغية الصحاح، وإلي أمهات كتب الفقه وأصول الفقه والتفسير في دقائق معدودة عبر شبكة الإنترنت، وسيجد فرصة لإعمال عقله وإفراغ وسعه لمعرفة ما يريد معرفته من أحكام وقواعد وآراء.. دون الحاجة لمن يدعي لنفسه القوامة علي دين الله.

إنني أناشد أصحاب سبوبة الدعوة أن يبدأوا في البحث لأنفسهم عن مجال يقدمون فيه أنفسهم كنماذج عالمة عاملة محترمة تكسب قوتها من الكد والعرق والسهر لما يفيد الوطن ويحمي أمنه ويصون عزته وكرامته ويحافظ علي وحدة ترابه.
                             
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 15 أغسطس 2013

No comments:

Post a Comment