Thursday 29 August 2013

مزرعة هيكل‏..‏ ودحديرة السلفيين

 
لوحة معبد سيتي الأول بأبيدوس لأرنست كارل أيوجين كورنر

وجدت خيطا قويا بين الأمرين بعد أن أغواني كل منهما أن أكتب عنه وحده مقال اليوم‏، أما الأمر الأول فهو اعتداء الإخوان علي مزرعة الأستاذ محمد حسنين هيكل، والأمر الثاني هو دحديرة السلفيين التي ننزلق إليها ومازلنا في قاع حفرة الإخوان..

يعني كما يقول أهلنا عن صاحب الحظ التعس إنه يطلع من حفرة ليقع في دحديرة فما بالك وحالنا ألعن من ذلك، لأننا لم نطلع من الحفرة بعد. أما الخيط فهو ذلك الاتصال العضوي المتين بين حرق الكتب والشجر في المزرعة، وبين حرق تاريخ وحضارة وثقافة ووجدان مصر في مناقشات الدستور! مزرعة الأستاذ هيكل ليست ككل المزارع سواء من ناحية الشكل أو ناحية المحتوي، لأنها في الحقيقة وعلي الناحيتين تمثل جزءا من شخصية صاحبها، ومن تكوينه ومن رؤيته، وعندئذ قد يذوب الشكل في المحتوي.

محتوي المقر الريفي للأستاذ ـ بلغة قادة الدول والساسة ـ ليس هو الأشجار المثمرة المعمرة ولا هو أحواض الزهور، ولا هو المبني البسيط فاحش الدفء، ولا هو الكتب والوثائق الخطية والإلكترونية وفقط، ولكنه أيضا المحصلة التي لا يمكن قياسها لعلاقات أسرية نموذجية، وعلاقات اجتماعية لا تحصي عددا وعمقا، واجتماعات ومناقشات كان بعضها مؤديا لقرارات مصيرية للوطن، وبعضها بالغ الثراء في كل مجالات الفكر والثقافة والسياسة، وبالجملة إنه محتوي لن تتلاشي منه أنفاس قادة ومشاهير ومفكرين وشباب طالعين، جلسوا فيه معززين مكرمين منتشين، ولن تتواري أفكار وكلمات لصاحب المكان ولغيره من زواره.

هجم البرابرة كقبائل الشمال عندما دهمت روما عاصمة المدنية، فأحرقوا ونهبوا وركزوا تدميرهم علي الكتب والوثائق وعلي الأشجار. وهنا يتدفق الحديث بغير حرج عما يعنيه حرق الكتب والأشجار، وتستدعي الذاكرة التاريخية من فورها واقعة ردم التتار لنهر دجلة بكتب مكتبات بغداد حتي تعبره خيولهم وجحافلهم فوق هذه الكتب، وحرق حدائق عاصمة الخلافة وبيوتها وقتل أهلها حتي بقي ماء النهر مخضبا بلون الدماء عدة أيام! ليس هذا وفقط، وإنما لابد أن نلتفت إلي بعد آخر في هذه الظاهرة المأساوية هو ما يمثله الأستاذ هيكل الشخص والفكر والسيرة والدور عند التتار المعاصرين لنتبين مدي ما يتملكهم من عنف وحقد وانتقام.. لأن الرجل يمثل ببساطة رمزا بارزا من رموز الدولة المدنية المصرية الحديثة لا يقل ـ بغير مبالغة ولا نفاق ـ عن رموز آخرين منذ رفاعة ومحمد عبده وسعد زغلول ولطفي السيد وطه حسين والتابعي وغيرهم. والأفدح عندهم أن الرجل هو الرمز الأبرز المتبقي لهذه الدولة في الحقبة الوطنية القومية التحررية، التي اشتهرت بالحقبة الناصرية، وفي هذا ما فيه في عقول وأنفس الإخوان ومن شاكلهم إن كانت لهم عقول.. ناهيك عن أن الرجل ـ أي الأستاذ هيكل ـ فارس مقاتل بالكلمة والموقف، لم يترجل عن صهوة قلمه حتي الآن وقد بلغ التسعين، وكانت معركة حتمية هزيمة مشروع العصور الوسطي المظلمة، الذي أمسك بخناق الوطن منذ عامين، هي معركة مهمة من معارك الشاب التسعيني محمد حسنين هيكل، لذا كان الانتقام بحرق الكتب والأشجار، ويا له من انتقام يضع أصحابه في الدرك الأسفل من مزابل التاريخ. أما الأمر الثاني فهو دحديرة السلفيين، التي تضعنا أمام حرق تاريخ مصر وحضارتها وثقافتها ووجدانها. وبداية أتمني أن أكون مخطئا ومغاليا إذا قلت إنني أعتقد أنه لا أحد من قيادات أولئك الدعاة السلفيين ـ اسمها الدعوة السلفية ـ قد قرأ شيئا عن معني ومضمون وتطور مصطلح الهوية ودلالاته الجغرافية والتاريخية والحضارية والثقافية، رغم أن أوليات القواعد الفقهية تحتم القيام بتحرير المصطلح قبل التصدي لإعماله علي أرض الواقع.

وقبل أن أستطرد أتوقف عند الوصف الذي يطلقونه علي حزبهم ـ حزب النور ـ إذ هو عندهم الذراع السياسية للدعوة السلفية، ولا أدري كم ذراعا لهذه الدعوة، لأن المصطلح ـ من ثان ـ نشأ وارتبط بالتكوينات التي تكونت لمقاومة الاحتلال فنجد ذراعا سياسية وأخري عسكرية وثالثة استخباراتية ورابعة اقتصادية وهلم جرا.. أما أن نكون في وطن غير محتمل وأن نكون أقرانا متساوين في خريطة سياسية، وأن نكون كلنا منتمين كأغلبية لعقيدة دينية واحدة، ثم يأتي بعضنا لينصب نفسه هو وحده الداعية لصحيح الدين، ويقيم لنفسه أذرعا، فهذا أمر غير مفهوم ولا مسئول، وليت مخيون وبرهامي يعلنان عن بقية الأذرع التي تمتد من جسد الدعوة السلفية ليعمل بقية الأطراف حسابهم لاحتمال وجود الذراع العسكرية المسلحة للدعوة السلفية!

إنهم يتكلمون عن الهوية الإسلامية، يعني أن الهوية المصرية إسلامية، ولا أدري لماذا لا نقول الهوية المصرية ثم نقطة ومن أول السطر. ذلك أنهم لو قرأوا وفهموا ـ حيث من الوارد القراءة وغياب الفهم ـ لأدركوا أن الهوية المصرية تتكون من طبقات متراكمة تاريخيا وحضاريا وثقافيا ووجدانيا، وهي طبقات متلاحمة متداخلة لو أردت أن تفصلها لأدميت الوطن وربما أجهزت عليه. ثم إن وصف الهوية بالإسلامية وفقط يعني أن هناك تطابقا كاملا بين كل المجتمعات التي تدين غالبيتها أو كلها بالإسلام، يعني تصبح مصر وإندونيسيا وباكستان وبقية الدول التي يسري عليها الأمر ذات هوية واحدة لا أثر فيها لعوامل الجغرافيا والتاريخ والحضارة والثقافة والوجدان، وهذا خلط ولغط وجهل بغير حدود، ورحم الله أستاذي الجليل الدكتور محمد عبد الهادي شعيرة، الذي درسنا تاريخ العباسيين وتاريخ المغرب والأندلس، وكشف لنا عن جزء من عبقرية العباسيين، عندما أقاموا الإمبراطورية وفق نظام سموه طرف داري، أي الاعتراف للأطراف بتنوع ثقافاتها وهوياتها الوطنية، ثم أي إسلام الذي يصبغون به الهوية، هل الإسلام السلفي الحزبي أم الإسلام السلفي الجهادي أم الإسلام الإخواني أم الإسلام السني الأشعري أم الإسلام الأباضي أم الإسلام الإثني عشري الجعفري أم إسلام الوسطية الجامعة أم إسلام القاعدة وبن لادن؟!

ارفعوا أيديكم عن الإسلام أولا، وانشغلوا بتخضيب لحاكم وتنعيم شواربكم، واخلعوا البنطالات، لأنها تجسد العورة من دبر ومن قبل، ثم انصرفوا إلي القراءة والفهم في علوم التاريخ والحضارة والسياسة، وبعد أن تفهموا وتتدبروا تصدوا لمهمة إعمار الأرض، التي قام بها غير ذوي الهوية الإسلامية خير قيام.
                        
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 29 أغسطس 2013

No comments:

Post a Comment