Thursday 12 September 2013

للسادة السلفيين أتحدث




في مقال سابق كتبت عن حفرة الإخوان التي مازلنا نحاول الخروج منها‏،‏ فإذا بدحديرة السلفيين تنتظرنا‏،‏ لنصير كتعيس الحظ الذي ما أن يحاول الخروج من الحفرة فإذا به ينزلق في الدحديرة‏!‏

ولقد كانت حفرة الإخوان هي الهاوية التي هوت فيها الأمة بعد أن ظنت أن وصولهم إلي الحكم هو الحائط الذي تستند إليه واقفة فوق أرض صلبة بعد طول عناء، فإذا بها بعد قليل تكتشف أن الحائط مداميك مرسومة بألوان براقة علي ستارة من الورق الخفيف، وأن الأرض ما هي إلا أغصان وحشائش جافة وحصي وتراب، فما أن وقفنا فوقها إذ بها تميد إلي الهاوية، ولنكتشف أن الأيدي المتوضئة احترفت التعمد بالدم، وأن الذيول الطاهرة موشاة بلحم الوطن، وأن الذمم العامرة المحكمة خربة وأوسع من ضلال إبليس وليس رحمة الله.

وها هي دحديرة السلفيين المتمثلة في التمحك المتنطع بقضية الهوية الإسلامية، وأنهم هم حماة هذه الهوية والمسئولون عن وجودها، وسبق أن راهنت علي احتمالات خطئي في معرفة السلفيين بمعني الهوية اصطلاحا ومضمونا، وكيف تطور المصطلح من زمن إلي زمن، وأن بلدا مثل فرنسا لم يأخذ مسألة هويته باستخفاف، وبالمناسبة أدعو السادة السلفيين وغيرهم لقراءة كتاب عنوانه هوية فرنسا، وهو من مجلدين ألفه واحد اسمه فرنان برودل وترجمه وحققه الأستاذ بشير السباعي، وهو من إصدارات المركز القومي للترجمة التابع لوزارة الثقافة المصرية.

موضوع الهوية يجب ألا يؤخذ باستخفاف يختلط فيه التعصب الممقوت بالجهل ويتسربل كلاهما بمسوح الدين، الذي هو أبعد ما يكون عن التعصب والجهل والزيف.

إن المرء ليتوقف طويلا أمام محكم التنزيل، وخاصة تلك الآيات التي ترشدنا إلي أهمية بل وجوب احترام التنوع الذي هو اختلاف الثقافات والأديان، ثم تعدد المداميك أو الطبقات الثقافية ضمن السياق التاريخي للمجتمع الواحد، وإلي جانب الآيات فإن الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ لم ينكر علي أمته أن تأخذ كل ما كان سليما وصالحا قبل بعثته، ولم ينكر عليها أن تتعلم من غيرها بعد ذلك!

يتوقف المرء أمام الآية الكريمة: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير سورة البقرة آية(285)، ويتوقف المرء أمام الآية الكريمة إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصاري والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة آية(62)، والآية الأخري: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصاري والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله علي كل شيء شهيد سورة الحج آية(17) صدق الله العظيم.

وأكاد أصيح بأعلي صوتي: الله.. الله.. الله!

إن سر توقف المرء هو أن الآيات تومئ إلي حتمية التنوع واحترامه، وحتي التنوع الذي يتضمن اختلافا جذريا في الاعتقاد، فقد تم الاعتراف به وأمر المسلمون أن يرجئوا حسم ذلك الخلاف إلي أن يحسمه الله سبحانه وتعالي يوم القيامة.

لقد سبق وكتبت عن أن الأجدي والأفضل والأكثر اكتمالا من وجهة نظري وقد أكون مخطئا ـ هو أن تكون هويتنا مصرية وفقط ونقطة ومن أول السطر.

وأول السطر التالي عندي هو أن الهوية المصرية تتضمن حتما كل مكونات وطبقات ومداميك الحضارة والثقافة والوجدان المصري منذ بواكير اكتمال الوجود المصري علي ضفاف الوادي منذ آلاف السنين، هذا من الناحية الزمنية، أما من الناحية المكانية في اللحظة الزمنية التي نحياها فإن الهوية المصرية تكفل ضمان وجود كل المكونات الفرعية سواء كانت ذات سمات اثنية ـ أي عرقية ـ عند أصحابها كالأمازيغية عند بعض أهل الواحات، وخاصة سيوة، إضافة لما قد يعتقده أهل النوبة وبعض أهل الصحراوين الشرقية والغربية وسيناء من أن لهم أصولا اثنية بعينها.. فإذا أضفنا لذلك في سياق التنوع الحالي نفسه فإن مسيحيي مصر حيث كلنا أقباط يشكلون مكونا رئيسيا في الهوية المصرية.

الأمر عندئذ أوسع وأشمل وأعمق مما يظنه السلفيون المصريون، ويتنطع بعضهم في التشدق بأنه المدافع عن الهوية الإسلامية، وهذا الاتساع والشمول والعمق يثري الوجود الإنساني لمصر كلها ولا يحرمها من إبداعات أبنائها عبر عصور تاريخها القديم والوسيط والحديث والمعاصر، وعبر إبداعات الآخرين الذين جاءوا إليها وافدين أو غزاة منذ موجات الهجرة الكبري في عصور ما قبل التاريخ إلي موجات الغزو في التاريخ القديم والوسيط والحديث، وهي إبداعات تفاعلت مع التكوين الحضاري والثقافي المصري لتنتج وجدانا شديد التركيب بالغ العظمة.

وكما يقال عن أن المسلم الحق هو من يؤمن بالشرائع السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام، فإن المصري الحق هو من لا ينكر جذوره القديمة وما اتصل به من جذوع وغصون وأوراق حتي هذه اللحظة التي من المحتم أن تشكل فيها إنجازات العلم والتقنية المعلوماتية جزءا لا يستهان به من مكونات العقل ومكونات الوجدان.

يا حضرات السادة السلفيين ابحثوا عن شغلانة أخري مفيدة غير حكاية احتكار تمثيل هوية الوطن والدفاع المصطنع عن أحد مداميكها الرئيسية وهو المدماك العربي، الذي يشكل الإسلام والمسيحية العربية أهم فقرات عموده الفقري!، ثم وللمرة غير الأخيرة اقرأوا وافهموا، لأن القراءة أمر إلهي للمسلم لا يقل وجوبا عن أوامر الصلاة والزكاة والصيام والحج والمعروف بوجه عام.. والفهم هو الطريق الوحيد للعمل وللتمييز بين من يحملون الأسفار وما يحملون الأسفار.. لأن من للعاقل وما لغير العاقل.
                        
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 12 سبتمبر 2013

No comments:

Post a Comment