Thursday 10 October 2013

مؤتمر المثقفين

 
معبد كوم أمبو
لظروف خاصة صعبة لم أتمكن من المشاركة في مؤتمر المثقفين الذي انعقد منذ أيام، وكنت مدعوا مع آخرين لتقديم أوراق حول دور الأزهر والكنيسة في تعديل وتنقيح الخطاب الديني.

وبداية فإنني أحيي وأثمن الجهد الذي بذله الذين فكروا في المؤتمر واجتهدوا في التخطيط لأعماله واختاروا قضايا بعينها ودعوا المفكرين والمثقفين وأهل الخبرة للمشاركة، وهذا هو المنهج الذي أظنه مطلوبا وبشدة في المرحلة المقبلة من مراحل العمل الوطني المصري، وأتمني أن تسعي مختلف المؤسسات والتكوينات الشعبية المصرية إلي طرح القضايا التي تخصها علي المهتمين بها لدراستها وللوصول إلي نتائج لتبدأ مرحلة لاتقل أهمية.

لقد بات التشخيص من القدرات النخبوية المصرية العالية، واتسعت دوائر المهتمين بالتشخيص حتي كادت المحروسة كلها تصبح خبيرة بمعرفة سمات الأعراض والأمراض، فلما تم التشبع في هذا المجال وضج الناس من كثرة المشخصين، بادر البعض إلي حتمية الانتقال من التشخيص إلي العلاج، وهنا تحدث الضجة الكبري نتيجة تعدد مناهج العلاج وطرائقه بتعدد المشارب السياسية والمدارس الفكرية الموجودة علي الساحة المصرية، وقد ظن البعض أنه يكفي الانتماء لليسار مثلا لكي يكون اليساريون علي قلب رجل واحد في اجتهاداتهم العلاجية لمشاكل المحروسة، ولكن هذا الظن يخيب تماما علي أرض الواقع، لأنك تجد في اليسار العديد من التوجهات، وداخل كل توجه العديد من التنويعات، وداخل كل تنويعة العديد من النتوءات وهلم جرا حتي نصل إلي المستوي الميكروسكوبي!.. نجد هذا الحال عند المنتمين للمدرسة الماركسية، وعند المنتمين للاتجاه القومي، كما نجده علي أكثر من ناحية مغايرة، فهو موجود عند الاتجاه اليميني وفي داخله المنتمون للمدرسة الليبرالية والمؤمنون بالتوجه الرأسمالي، كذلك المنتمون للمرجعيات الدينية!

ومن التشخيص إلي العلاج، وصلنا إلي حافة أخري يتحتم القفز منها إلي أرض الواقع، إذ تبين أن التشخيص والوصول إلي طرق علاج مختلفة هو جهد مشكور وعظيم، ولكنه يبقي في الإطار النظري وربما الشفهي ولا علاقة بينه وبين ـ الحالة ـ نفسها، والكل، مشخصين وواصفين للعلاج، ينتظرون الشغيلة أو الفواعلية التطبيقيين الذين يأخذون ذلك الجهد النظري العظيم ويحولونه إلي واقع عملي يعالج الأمراض ويشفي الجسد الاجتماعي ويحميه من الانتكاس! وفي لحظة ترقب قيام الفواعلية بواجبهم تظهر المعضلة الكبري في مصر المحروسة، وهي معضلة مزمنة تجلت في مراحل متوالية بأكثر من مسمي.

إننا نتذكر أن محمد علي باشا الكبير حاول بجدية واضحة ردم الفجوة بين التشخيص وكتابة وصفة العلاج وبين من يجلس إلي الحالة ليعطيها الدواء ويراقب التطور، فكانت الاستعانة بالخبراء من الخارج مثل جماعة ـ السان سيمونيين ـ أي أتباع سان سيمون في فرنسا، وبعدها كانت البعثات التعليمية إلي أوروبا ليعود المبتعثون وقد امتلكوا القدرة علي تنفيذ وصفات العلاج. ويروي أن الباشا كان يأمر بوضع الشاب العائد من البعثة في ملحق سكني بالقلعة ويأمره بكتابة ملخصات عما درسه وملخصات لكتب أخري، ثم يستقبله بطريقة بروتوكولية معينة في وجود الخبراء، وإذا رضي عن مستوي تحصيله ومعرفته كافأه وأعطاه رتبة وكلفه بالعمل في المجال الذي تخصص فيه.. وهكذا شهدت مصر أيامها بداية نهضتها المدنية الحديثة، وعندما هبط المنحني وتم الاستغناء عن العلماء والخبراء وتوقفت مشروعات النهضة علي يد بعض خلفاء محمد علي انهارت البلاد واستدانت وكان الاحتلال! ولقد كانت مشكلة نظام يوليو هي ما لخصته العبارة الشهيرة أن الزعيم ناصر قد طبق ـ الاشتراكية بدون اشتراكيين ـ يعرفون أهدافه معرفة حقيقية، ويترجمونها علي أرض الواقع، وكان السوس الذي نخر التجربة ولم يفلت الوجه الآخر الذي هو التطبيق الرأسمالي الانفتاحي من الأزمة نفسها، لأنه ما إن تم التوجه يمينا إلي الرأسمالية قبيل منتصف السبعينيات من القرن العشرين إلا وقام الرأسماليون الجدد بتتبع الإنجازات الكبيرة التي أنجزتها التجربة الناصرية وضربها إنجازا من بعد إنجاز، وما لم يتمكنوا من ضربه وتصفيته حاصروه وخنقوه وأفرغوه من مضمونه دون أن يفطنوا إلي أن كل ما يحطمونه هو رصيد مصر وعرق وجهد ودم أبنائها وليس فقط أثرا من آثار يوليو وعبد الناصر.. ولكن ماذا يفعل المنطق السوي إذا عميت الأبصار وانطمست البصائر؟!..

لقد طبقت الرأسمالية في مصر بأسلوب ينتمي لجمهوريات الفساد في أمريكا اللاتينية أكثر مما ينتمي للرأسمالية الجادة الحقيقية في دول أخري كأوروبا الغربية، وكان انفتاح السداح مداح والقطط السمان وتجريف مصر من ثرواتها وعقولها وخبراتها، إلي أن وصل الحال إلي ما عرفناه وعانيناه، فكانت ثورة المصريين المعاصرة ابتداء من حركة الجماهير العظيمة في انتفاضة الخبز يناير1977 التي تحولت هتافاتها من التعبير عن المعاناة الاقتصادية إلي التعبير عن فساد المعادلة كلها والمطالبة برحيل النظام وإسقاط أنور السادات.. وليس انتهاء بثورة25 يناير2011 بموجاتها المتلاحقة.

وعود علي بدء فإن مؤتمر المثقفين، الذي هو بالقطع خطوة للأمام وجهد مطلوب، عليه أن ينتقل بأصحابه والمشاركين فيه وكل من يهمه أمر هذا الوطن، خاصة أمر قوته الناعمة، أي الفكر والثقافة والفنون والبحث العلمي وغيرها إلي أرض الواقع للتواصل مع المعنيين في قصور الثقافة والنوادي الاجتماعية وجمعيات العمل الأهلي، ومع القائمين علي تربية النشء وللتواصل مع الناس في الأرياف والحضر والبوادي لتأصيل وعي عام مستنير يرفض نخاسة المتاجرين بالأديان، ويرفض دجل اللصوص الذين يريدون العودة من بوابة 30 يونيو إلي صدارة المشهد السياسي مرة ثانية بعد أن نهبوا المحروسة ودمروا مقدراتها بحزبهم الوطني ولجنة سياساتهم! وتحية للمؤتمر ولمن اجتهد في إقامته والتخطيط لأعماله.
                                
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 10 أكتوبر 2013

No comments:

Post a Comment