Thursday 11 September 2014

خالد السرجانى.. الفعل المقاوم

 
الصحفي خالد السرجاني

عشرات السنين أسمع عبارة «ما دخلش دنيا»، أى «لم يدخل الدنيا» ومعها فى السياق نفسه «أكمل نصف دينه»! ودائما ما ارتبطت العبارتان بالزواج، فالذين لم يدخلوا الدنيا هم الذين لم يتزوجوا رجالا كانوا أو نساء، وكذلك فالذين لم يتزوجوا لم يكملوا دينهم!. ولم ألتفت كثيرا ولا قليلا لتبديد غموض المعنى، خاصة العبارة الأولى التى تربط بين الزواج وبين الدنيا، لأن الثانية سهلة نسبيا حيث الإحصان من لزوميات تمام التدين! وليس الدين كما أعتقد.

ظللت كذلك إلى أن زلزلنى أو بالعامية وأظنه الأدق «لوحنى» ظهر السبت الفائت سطر قرأته على الفيس بوك ومصدره الزميل الأستاذ سيد محمود: «توفى منذ قليل الزميل خالد السرجانى وستشيع الجنازة فى بورسعيد..»!، وعندها صحت: «يا خبر أسود»، وحاولت الاتصال بصاحب الخبر فلم أتمكن ثم صمت، وبعدها ضحكت فيما أخبط كفا بكف وأتلفظ بكل ألفاظ الاحتجاج المشروعة وغير المشروعة، لأنه الضحك الذى خص به الشاعر الأشهر مصر عندما قال: «وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا»! كنا، خالد وأنا ـــــ شأن ما جرى مع العديدين فى اليوم ذاته ــــــ قد تواصلنا هاتفيا ليسألنى عن الحال وليبدى وجهة نظره كالعادة فيما أكتب، ولكنه هذه المرة لم يبد كثير الإطراء كما تعود، واتجه مباشرة إلى سؤال محدد: هل انضممت للصحيفة الفلانية لتكتب أسبوعيا فوق الصحف الثلاث التى تكتب لها؟ وأجبت مفسرا ومركزا على ما انتابنى من حيرة، ولم يتردد هو عندما نصحنى أن أترك الكتابة فى إحداها حال لو راقنى الاستمرار، ثم بسرعة أضاف: على أى حال فإن هذا ليس هو الموضوع الذى طلبتك لأجله فقد طلبتك لأدعوك لعقد قرانى وزفافى مساء بعد غد الجمعة الساعة كذا فى المكان الفلاني.

وصحت متهللا: أخيراً دخلت بقدميك وقررت أن تترك الميزة التى كنا نحسدك عليها!

عرفته منتصف ثمانينيات القرن الماضي!، زكاه لى الراحل البورسعيدى أيضا، الفارس النبيل محمد السيد سعيد، ليكون من بين مجموعة من شباب الباحثين والصحفيين للكتابة فى الصحيفة التى أدير مكتبها بالقاهرة، وبسرعة شديدة تفاعلت الكيمياء بيننا فلم يتصادف مرة واحدة أن ضبطنا بعضنا وقد طمست ملامحنا الأقنعة التى كثيرا ما تطمس وجوه وشخصيات الذين يتخذون من الكتابة سبيلا لحياتهم.. فقد كان خالد بسيطا متواضعا صادقا بشوشا قارئا محترفا ولم أصادفه مرة واحدة طيلة تلك السنوات التى زادت على ربع قرن خالى الوفاض من «شنطة» كتب حديثة طازجة يحملها بيده، أو من مئات المصادر والمراجع والأفكار يحتويها ذهنه المتوقد!، وتحميها قدرته الفذة على استدعاء المعلومة، وعلى التحليل النقدى للأفكار وللمواقف، وكان كثيرا ما يجسد لى النموذج المحترف فيما يطلق عليه «علم الرجال»، وهو علم ارتبط بالحديث النبوى سواء ما يتصل بجرح الروايات أم ما يرتبط بشخصيات الرواة، سيرتهم وتكوينهم وصدقهم وزيفهم!

وبحكم ظروفه الاجتماعية - نشأة ومسارا وتكوينا - لم يكن خالد يفضل الاشتباكات العابرة اليومية فى جلسات وثرثرات مقاهى وتجمعات أهل الصنعة، ولم يقبل أن يلجأ للانتماء إلى أحد «الجيتوهات» - جمع «جيتو» - التى تضفى حماية ما على المنضوين فيها، لكنه فى الوقت نفسه لم يكن يتردد فى خوض المعارك الجادة - وليس الخناقات - إذا ما تعلق الأمر بجوهر حاضر الوطن ومستقبله، وكانت آخر مبارزاته فى هذا السياق معركة الانتخابات الرئاسية التى تمايز فيها موقفه عن موقفى مثلا، ومعركة ما أطلق عليه مشروع النهوض الثقافى الذى تبنته وزارة الثقافة مع بداية استوزار الدكتور عصفور، وكان لخالد رأى حاد فى الورقة المبدئية التى كتبها الأستاذ الكبير سيد ياسين ونشرت بالأهرام منذ أسابيع!، وكان لكاتب هذه السطور إسهام متواضع حول الجذور التاريخية لمشروع التجديد الفكرى فى مصر منذ القرن الثامن عشر!

ثم إننا - وليس خالد وحده الذى كان - كنا نحاول دخول الدنيا بطريقتنا، إذ إن جيله وجيلين قبله من المتشبثين بالحق فى الحياة عبر الفعل المقاوم منذ ما بعد نكسة 1967 إلى الآن.. فهناك جيل قبل طواعية أن ينضوى فى المشروع الوطنى الاجتماعى التحررى الذى كانت ثورة يوليو والتوجه الناصرى حلقة مهمة ورئيسية فيه، ومن ذلك الجيل تميزت شريحة مثلت الجانب الآخر فى الديالوج داخل منظمة الشباب والتنظيم الطليعى والاتحادات الطلابية، وكانت الذروتان البارزتان هما حركة 1968 وحركة 1972 بامتداداتهما التى تبلورت فى ذروة عظمى فى أحداث انتفاضة 1977 التى كان لها وجهان أحدهما اجتماعى ثقافى والآخر وطنى تحرري، وامتلأت السجون وأفرغت، إلى أن كانت «الترحيلة النفطية»، أى السفر بحثا عن القوت وعن الستر فى بلاد النفط، وكانت الحقبة التى تبلور فيها التحالف الفاجر بين الثروة والسلطة وكان لحمتها الإفساد وسداها الفساد، ووثب إلى مواقع التأثير الاقتصادى والاجتماعى والثقافى والصحفى والإعلامى كل الذين أدركوا أن دخول الدنيا يكون بشروط المرحلة، وأهمها أن تكون حضرتك شبيها بأسيادك المفسدين الفاسدين، لا أن تطلب أن يكونوا هم مشابهين لك.. ووقعت الطيور على أشكالها، وصرنا نسمع عن الوطن الذى صار شققا مفروشة، وعن الكلمة الأخرى غير تلك التى كانت «هى البدء».. كلمة مخصية لا بأس أن تؤجر وتستأجر وتنتهك، إلى آخر ما جري، ومازال الوطن ينزف دمه ونخاعه بسببه حتى هذه اللحظة!، وفى ذلك السياق بقى الذين رفضوا دخول تلك الدنيا يعيشون البتولية المعنوية بكل أبعادها لأنهم أقاموا حالة توحد بين عرض الوطن وأعراضهم، وعندما دارت دورة التاريخ، ونادى منادى الخلاص فى يناير 2011 ملبيا نداءات ظن البعض أنها تبددت فى فضاء دنياهم هى نداءات 68، 72، 77، كان خالد وكل أشباهه نماذج لاستمرار الفعل المقاوم، وأظن أن خالد السرجانى كان قد تيقن بدرجة أو أخرى أن دنياه التى هى دنيا شرفاء هذا الوطن قد هل هلالها، ولذلك أخذ قراره المؤجل بأن يستكمل مقومات دورة الحياة.. بالزواج الذى هو وجه من أوجه الديالوج الإنساني، لكنه أخذ قراره على قاعدة «قل كلمتك وامش»! وستبقى يا أخى وصديقى حيا لأن الفعل المقاوم لم ولن يتبدد.
                                        

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 11 سبتمبر 2014

No comments:

Post a Comment