Tuesday 11 November 2014

التنمية بالكل على قلب رجل واحد!


فى دراسته للتاريخ محاولاً استخلاص ما يسمى القوانين الحاكمة لحركته، توصل الفيلسوف والمؤرخ البريطانى أرنولد توينبى إلى أن أبرز تلك القوانين التاريخية هو التحدى والاستجابة.

ومن المعروف أنه اهتم فى دراسته بتاريخ مصر على وجه خاص، لأنه النموذج الأقوى لصحة ذلك القانون، عندما استطاع المصريون منذ واجهوا تحدى الطبيعة أن يقدموا استجابات مناسبة لضخامة التحدي، فكان أن روضوا النهر وتحكموا فى مائه، عند فيضانه وعند قحطه، وكذلك بتوزيعه توزيعًا عادلاً.. وكان أن أدركوا تحدى الصحراء من الشرق والغرب، وتحدى البحر من الشمال والشرق، واستجابوا لذلك بضبط العلاقة بين النهر والبحر، وعرفوا أن مصر المتوازنة هى مصر المتماسكة، ومن ثم القوية التى تلعب دورها الحضارى فى محيطها، وأبدعوا فى ذلك قبل أن يظهر علم الجغرافيا السياسية.

ثم إن المسار التاريخى لوطننا يوضح مدى الاتصال بين حلقاته، وكيف أن هذه المحروسة كانت دومًا قادرة على الخروج من المحن، التى يسميها الناس الشدة، وفى هذا نماذج تجل عن الحصر، ولا يمكن أن نسقط من تفكيرنا أن أجدادنا القدامى أدركوا بقوة إن مصر إذا فقدت توازنها تفككت وضعفت، واتجهت إليها القوى الخارجية الطامعة فى الهيمنة عليها، أيًا كانت صورة هذه الهيمنة، وإبقائها فى حالة الضعف على الدوام، ثم إننى أذهب إلى أن معظم إن لم يكن كل الانتقالات والتحولات والمواجهات هى حالات استثنائية تعيشها المجتمعات، وما لم تستطع أن تكشف طريقها وتبدع وسائل الانتقال من حال إلى حال تضمحل وقد تبيد.. حيث إن دوام الأحوال من المحال، وأن دورات التاريخ قد تبدو فى سياقه مجرد أيام بعضها لك وبعضها عليك، ولو دامت لغيرك لما وصلت إليك!

والشاهد هنا أنه ليس شرطًا أن يخوض المجتمع حربًا خارجية ضد هجوم عليه أو بهجوم على غيره، ولا أن ينخرط فى مواجهة داخلية ضد موجة إرهاب أو محاولة انفصال أو نوبة تمرد من فئة أو جهة، لكى نقول إنه فى حالة استثنائية، لأن الانتقال من تخلف إلى تقدم يواكب ما وصل إليه آخرون فى العالم، خاصة إذا كان التخلف من درجة الانحطاط والاضمحلال، وكان التقدم ثورة سباقة فى العلم والمعلومات والإنتاج هو حالة استثنائية، وكذلك فإن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الجذرية داخل المجتمع نفسه هى حالة استثنائية إذا عرفنا الاستثناء بأنه الحال أو الوضع، الذى يستلزم استنفار كل مقومات الوجود الإنسانى من طاقة وجهد وتفكير وإمكانيات مادية ومعنوية لمواجهته والخروج من أسره أو إطاره، إلى ما هو أفضل، أى إلى ضمان أن يسير المجتمع ويحقق رفاهيته بجهد عادي.. مثلما هو وضع الإقلاع للطائرة.. ثم استوائها محلقة فى الأعالى إذ يستلزم الإقلاع تفعيل كل طاقة الطائرة، فإذا انطلقت إلى مدارها المطلوب مضت بطاقة أقل.

وغنى عن التوضيح والاستطراد أن المجتمع إذا عاش حالة تحدٍ استثنائية مزدوجة، أى أن يحقق انتقالاً ومعه يخوض مواجهة داخلية ليس فقط مع قوى الإرهاب المسلح المدعومة من الخارج، ولكن مع مخططات تفتيت وتفكيك وفساد فعلت فعلها وتغلغلت مدة طويلة، فإن استدعاء الطاقة والجهد والفكر والإمكانات على كل المستويات يكون مضاعفًا هو الآخر.

ولعل سؤالاً يطرح نفسه عند الحديث عن التنمية فى ظل ظروف استثنائية وهو: هل من المحتم أن يرتبط الاستثناء بإجراءات جرى العرف على وصفها بالاستثنائية من قبيل فرض حالة الطوارئ، والتعبئة العامة، والأحكام العرفية وتعديل الدستور وتقييد القوانين إلى آخر هذه المنظومة؟! هل يتعين أن يتم بالتالى تقييد الحريات وتقليص الخدمات إلى آخره؟!

الإجابة لأول وهلة، هى جواز حدوث كل ذلك طالما أن التحدى استثنائي، ولكن بقليل من التفكير فإن من الوارد أن نتجه إلى ما هو أكثر فعالية من تلك الإجراءات لضمان الانطلاق بالتنمية إلى مداها، فيما الوطن يعيش تحولاً سياسيًا واجتماعيًا ومعه تحديًا لإرهاب عقائدى مسلح مدعوم من الخارج.

لقد ثبت أن الأجدى من الطوارئ والأحكام العرفية وغيرها هو العمل على أن يكون الكل الوطنى بتنويعاته المناطقية والثقافية والدينية والطائفية والفئوية والعمرية واعيًا بطبيعة الظروف، التى يعيشها الوطن، وحجم التحديات التى تجابهه، ومدركًا لمدى الجهد الذى يجب أن يبذل لصنع الاستجابات المناسبة!

عندئذ تبدأ التنمية من أرضية صلبة وقابلة للإنبات، فى الوقت نفسه هى أرضية الوعى العميق لدى كل قطاعات المجتمع بما يمر به الوطن من ظروف، ثم تفعيل هذه الظروف فى جدول أو قوائم يتم شرحها للناس بواسطة الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، وبواسطة الأحزاب والتنظيمات وتكوينات المجتمع المدني، وبواسطة المنابر فى الكنائس والمساجد، وليعرف الناس ماذا لدى الوطن من أولويات، وكيف يمكنهم تقديم الجهد المناسب الاستجابة فى هذه الحال.

وبالقطع فإنه إذا كان الرشد فى إدارة أى عملية إنتاجية مادية أو ذهنية يقتضى وصفًا للمهمة وتقسيمًا للعمل فى التنمية الوطنية الشاملة تقتضى توزيعًا عادلاً للأعباء والتبعات، ولا يمكن لمن واتته الفرصة للثراء وتكوين الأصول المستفحلة فى زمن ما لم يكن فيه تنمية ولا رشد ولا رقابة، أن يبقى كذلك دون أن يتحمل العبء المناسب.

وربما يطرأ على ذهن أى مراقب لما ندعو إليه تساؤل حول ما يمكن أن نسميه الرادع القوي، الذى يعصم من الزلل ويردع العابث بمقدرات الوطن أولاً، والمخالف بالتبعية للقانون، وهنا ومع القانون وعقوباته فإننى اتجه لقوة حاسمة قد تكون أقوى من مواد القانون، التى كثيرًا ما يتمكن محامٍ بارع أن يستغل ثغرات التحقيق وغياب الأدلة ووهن الإجراءات وخلافه لتبرئة العابث المخالف.. إنها قوة ونفوذ الوجدان الوطنى والإرادة الجمعية داخل كل التكوينات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفى عموم الوطن.. إنها سطوة الردع الاجتماعي، الذى يستخدم وسائله المتعددة ابتداءً من النصح والتوجيه والإرشاد، وصولاً إلى العزل والمقاطعة والازدراء.. يعنى وبالبلدى الفصيح تجريس المجرم فى حق الوطن وحق المجتمع، حتى وإن تحايل ومكنته ثغرات القانون ومهارة المحامين من الإفلات، لأننا نعيش هذه الحال الآن، حيث يفلت مجرمون كثيرون عبثوا بالوطن، وخالفوا القانون، ولكن الإجراءات لم تكف لإدانتهم.. ورأيناهم يطلون برءوسهم ووجوههم الكالحة ثانية دون أدنى إحساس بالحرج!، ولعلكم تذكرون ما كنا نقوله صغارًا لمفطر رمضان يا فاطر رمضان يا خاسر دينك، لأنه يمكن فعل الأمر نفسه للعابثين المخالفين!

خلاصة الأمر أن التنمية فى حالات الاستثناء هى تحفز كل التكوينات الشعبية، ومن كل المستويات، لتلقف المهمة حسب تقسيم العمل وتوزيع الأدوار والأعباء والتفانى فى إنجازها، ليصبح الكل على قلب رجل واحد.

ولقد سبق أن كتبت عن المواقع القاطرة، أو التى يمكن أن أسميها المناطق المحررة، ويُقصد بها رسم خريطة لأماكن بعينها فى طول الوطن وعرضه، أى فى كل المحافظات، يتم التركيز عليها لتحريرها من الفقر والجهل والمرض، وكل معوقات التنمية من قيم وعادات وتقاليد، وممارسات القوى المضادة للتقدم من بيروقراطية وفساد، ثم العمل على ترسيخ وتوسيع الوعى الذى أشرت إليه بين صفوف الجمهور، وخاصة الشباب والمرأة واستقطاب كل الطاقات، وتدبير الموارد الذاتية، إن وجدت، وتصميم نماذج للتنمية المستدامة فى هذه المناطق، ابتداءً من الطاقة النظيفة البيوجاز ــــ الرياح ــــ الشمس، والزراعة العضوية الخالية من الملوثات، والتعليم القائم على الأسس العلمية والتربوية السليمة، وكذلك الصحة وبقية الخدمات.. وبتحقيق ذلك فى تلك المناطق المحررة، ستتحول إلى نقاط ضوء مشعة فى محيطها، لينشأ عندنا ما يشبه الجهاز العصبى اليقظ المتصل ببعضه البعض.. تمامًا مثلما كانت فلورنسا ومدن إيطالية أخرى هى النوايات المتقدمة، التى قامت عليها النهضة الإيطالية، ومن ثم النهضة الأوروبية.. ولعل وجود هذه المناطق يكون حافزًا للكثير من الأسر العريقة ذات الإمكانيات المادية الميسورة، وكذلك للكثير من رجال الأعمال أن يحفروا أسماءهم بحروف من نور، مثلما كانت الحال لأسرة آل مديتشى فى فلورنسا، وللشخصية التاريخية الخالدة لورنزو العظيم.
                                    
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 11 نوفمبر 2014

No comments:

Post a Comment