Thursday 4 December 2014

وعى الحاكم.. والأوانى المستطرقة




يبقى الرهان على وعى القطاعات العريضة من الشعب هو الضمان لتحقيق تماسك الأمة وتوازنها وقوتها وأدائها لدورها فى الإقليم وفى العالم، وهو الكفيل بحفز الشعب للاستجابة للتحديات التى تواجه الوطن على كل المستويات، وقد ثبت ذلك فى يناير ويونيو ومن قبلهما فى مسيرة طويلة، أزعم أنها امتدت منذ ثورتى القاهرة الأولى والثانية ضد حملة بونابرت الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر.

غير أن مسألة الوعى لابد أن يتم فيها تأصيل وتفصيل وتخصيص، لأنه وكما يقولون «ما من عام إلا وخصص»! وأول التأصيل والتفصيل هو خصوصية الوضع المصري، ليس بمعنى حصانة مصر دون بلاد الأرض ضد الضعف والاضمحلال، وليس بمعنى أنها غير قابلة لأن تسرى فيها معالم القوة والتقدم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وإنما بالمعنى الذى يعتمد على قراءة الظرف التاريخى المحيط بمصر، وتبين كيفية تعامل المصريين مع هذا الظرف، حيث يختلف الأمر مع مسيرة الزمن، ولا يمكن أن يتطابق ظرف القرن الثامن عشر مع ما بعده حتى القرن الحادى والعشرين.

وحتى لا يشطح القلم أكثر من ذلك فى تنظيرات التأصيل والتفصيل، فإننى اقترب مباشرة من أمر أراه ضروريا، وهو حتمية أن يمتلك الحكم فى قمته وعيا عميقا يتواكب مع وعى النخبة ومع وعى القطاعات العريضة، وربما يسبقهما ويكون الأكثر عمقا وشمولا منهما، ليس لأن الحاكم ملهم وعبقرى ويأتيه العلم اللدنى من وراء الطبيعة، ولكن لأنه وبحكم موقعه ومسؤولياته تتوافر له المعلومات والرؤى والاستشارات بدرجة قد لا تتوافر لغيره، كما أن إمكاناته أوسع فى تكوين النظرة الشاملة التى تلم بجميع جوانب الأوضاع على كل المستويات.

ولا يمكن أن نراهن على وعى الناس، لكى تمضى مصر قدما فى طريقها الذى اختارته وأسست له فى يونيو، وبدأت تخوض غمار مواجهات فى الداخل والخارج وتنجح فى معظمها حتى الآن، دون أن نضمن وعى صانعى القرار ومتخذه حتى لا تحدث الفجوة ويتسع الفراغ وتتداخل الأمور، فيحدث ما حدث من قبل فى الحقبة ما قبل ثورة يناير 2011 حيث أصر الحاكم، أى متخذ القرار، أن يحيط نفسه بصانعى قرار ليسوا مدركين لأهمية الاتساق مع طموحات الشعب ولا مقدرين معاناته، فكانوا بلا وعي، وكان الحاكم آنذاك لا يلتفت إلى قضية الوعى أساسا بل ربما ـــ وقد حدث ذلك ـــ كان يسخر ممن عز عليهم أن تسقط مصر صريعة لجهل حاكمها وغباء وسطحية نخبة حكمه، فتقدموا إليه بالرأى والنصيحة والنقد مرات ومرات وبدا وكأنه لا يراهم ولا يحترمهم.

وعى الحاكم يبدأ فى ظنى باستيعاب أوضاع بلاده وكفالة تدفق المعلومات إلى هيئة قراره، وبالدرجة نفسها بإدراك عوامل الاضمحلال والتحلل التى أدت إلى أن يصل الحكم إليه كبديل اختاره الناس حتى لا يتهدد وجودهم العضوى مع تهدد بل وانهيار وجودهم السياسى والاقتصادى والاجتماعي، ثم أن يعمل الحاكم على تلافى تكرار تلك العوامل، وعلى سبيل المثال فإن الحاكم قبل ثورة يناير كان قد وصل به الحال إلى أن يرسخ فى وجدان الشعب ونخبه أنه يسير فى واد غير الوادى الذى يسيرون فيه، وصارت جملة «قولوا كما تريدون وأنا سأفعل ما أريد» سارية على كافة الألسن، مثلما كانت الجملة التى سادت فى عهد من سبقه أى السادات «أنه يعطى إشارة الاتجاه يسارا ثم يدخل اليمين»! وسمعنا أيضا الحاكم يؤكد غير مرة أنه عنيد لدرجة قال فيها عن نفسه «أنا عندى دكتوراه فى العناد!»

وكان يؤثر أن يريح رأسه فلا يلتقى بالأحزاب وقادتها ونخبها ولا يستقبل مفكرا أو خبيرا، ثم كان أن فوض نجله ليلعب دور الرئيس بدون سند دستورى أو قانوني.. ومن ثم بدأت نخبة حكمه «فى القصر أى البلاط، وفى الحزب الوطني» تتأقلم وتتكيف مع هذا الوضع، وكان المرء يجلس إلى بعضهم، وهم فى لجنة السياسات وغيرها فيسمع انتقادا وضجرا، ولكنه يقتصر على الجلسات المغلقة وفقط. ومن البديهى أنه ليس مطلوبا من الحاكم أن يكون عالما خبيرا ضليعا فى كل شيء، وإلا صارت كارثة تقضى على الوطن، وإنما المطلوب أن يكون مسلحا بالحدود المقبولة لتكوين الرأى والقدرة على الفرز، وبذلك يؤثر فى نخبة حكمه وخاصة المحيطين به ممن يساعدونه بصنع القرار تمهيدا لاتخاذه، لأنه كما أن الجهل والتجاهل والسطحية معدية، فإن العلم والإحاطة والتعمق هى بدورها معدية. وبعيدا عن زمر التطبيل والنفاق التى أكلت على كل موائد الحكم مرحلة بعد مرحلة، وهى مستعدة لأن تفعل ما فعله آخرون صدق فيهم القول القائل: «إنهم مستعدون لسلخ جلود بطون أمهاتهم ليصنعوا منها طبولا ودفوفا يدقون عليها للحاكم»، فإن الوعى فى القمة وترجمته إلى إشارات وعبارات وقرارات وممارسات يفتح الطريق بقوة لتكوين واستنارة الوعى العام فى الوطن كله. ويساعد الذين يرون فى النظام القائم نظاما وطنيا قادرا على الاستجابة الصحيحة للتحديات، على تكريس رؤيتهم وتطويرها ويعطيهم مسوغا منطقيا صحيحا لموقفهم.

ولأن بعض التفاصيل تبدو مهمة فإن التحرك المصرى فى الدوائر العربية والإفريقية والدولية يبدو مبشرا وموحيا بنتائج إيجابية يمكن أن تتراكم، فإذا أضفنا إلى ذلك ما يتم إنجازه على المستوى الداخلى فى مجالى الاقتصاد والخدمات، فإننا نرصد استجابة مناسبة للتحديات، ومن جانب البعض فإن هذه التحركات والإنجازات تعد دليلا على وجود رؤية ووجود برنامج لدى قمة الحكم فى مصر، إذ ليس شرطا أن تأتى الرؤية مكتوبة فى كتاب مجلد تجليدا فخما وصفحاته مذهبة الإطار، وإنما يمكن أن تأتى عبر ممارسات فعلية تتيح للعين المبصرة أن تنتظمها فى منظومة متصلة.. وهذا ما حدث ـــ رغم فارق القياس ـــ مع ثورة يوليو، إذ آثر جمال عبد الناصر أن تتحدث الممارسات عن الرؤية، فكان أول قرار هو تحديد ساعات العمل وتحديد الحد الأدنى للأجور، وأعقبه القرار المزلزل بالإصلاح الزراعى الأول، فيما كانت دوائر أخرى من شباب الثورة آنذاك تعمل فى صمت باتجاه إفريقيا والعالم الإسلامى والعالم الثالث.

إن الوعى شأنه شأن ظواهر أخرى محكوم بما يشبه قانون الأوانى المستطرقة، فإذا غزر وفاض فى قمة الحكم ونخبته كان حتما أن يبلغ المستوى نفسه فى بقية المجتمع.
                                                
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 4 ديسمبر 2014

No comments:

Post a Comment