Thursday 14 March 2019

اغتيال الشخص واغتيال الشخصية




في لمح البصر ألقيت من يدي ما كنت أقرأه وبحلقت مشدوها غير مصدق لما أسمع وغير متخيل أن هذا الشخص يقول هذا الكلام وبإصرار عنيد!.. شفت سيف عبد الفتاح بوجهه الذي طالما طالعته عشرات المرات في الندوات والمؤتمرات والمحاضرات والاجتماعات وعلى شاشة التلفزيون، ولا أريد أن أصف ملامحه حتى لا يقال إنني أمارس نقيصة الثرثرة في عيوب الناس، وما أريده هو التساؤل الاستفهامي والاستنكاري معا عن كيف يمكن لأستاذ في العلوم السياسية وفي أكبر وأهم جامعة مصرية، ولمثقف مدني، حسب نفسه وحسبه الناس على ما اصطلحت تسميته بتيار الإسلام المستنير الوسطي، ولواحد ممن دنت لهم ثمرة المشاركة في حكم مصر من أعلى مستوى، أي في الزمرة الرئاسية.. كيف يمكن أن يطالب علنا وبالفم المليان وبالنبرة الواثقة بأن يتم التخلص من شخص الرئيس المصري.. ولا يهتز له ضمير أو يطرف جفن والمذيع يسأله المرة تلو المرة في الأمر ذاته ليعود هو المرة تلو المرة أيضا ليؤكد أنه لابد من التخلص من الرئيس أولا لكي يتم إنقاذ البلاد وبغير التخلص منه فلن يتم شيء!!

لأول وهلة لم أعقل ما سمعت.. وبعد سكرة الاندهاش جاءت فكرة التدبر، لأجد أن الدائرة اكتملت وما كنا نكتب فيه ونستميت في أنه صحيح وكان غيرنا يتهمنا بالخلط والتخليط والمبالغة بل وبكل الأوصاف الرذيلة، تبين أنه صحيح، إذ كنا نقول ونكتب أن ما يسمى بتيار الإسلام المستنير ورموزه من مفكرين وكتاب وأساتذة جامعة ورجال قضاء سابقين هو جزء لا يتجزأ من التركيبة التي تستدعي لنفسها مهمة القوامة على دين الناس والتي لا تسعى لنشر القيم العليا الدينية والإنسانية بقدر ما تسعى للسلطة والتحكم، وأن هذا التيار طالما خدع الخلق، وعندما جاءت السلطة لهم على صينية أضحى معلوما من صنعها ومن جهزها، انكشف المستور ووجدنا منطقا آخر!

كان سيف عبد الفتاح- ومعه بعض زملائه وزميلاته في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- يسعون دوما لتأصيل وترويج ما تبين أنه أكذوبة كبرى، وهو أنه من الوارد والممكن أن يكون للتأسلم السياسي وجه مستنير تحديثي مؤمن بالمواطنة وبالديمقراطية.

وكانت الشبكة تضم معهم آخرين لا أريد أن أذكر بعض أسمائهم بعد أن تواروا بعيدا عن هالات الضوء، التي طالما أحاطت بهم في الصحافة والإعلام المرئي والمسموع وفي الندوات والمؤتمرات، ثم بعد أن وصل الإخوان للحكم صارت الاستنارة والتحديث والمواطنة والديمقراطية شعارات بالية، تقادمت ومضى عهد استخدامها، الأمر الذي كان دوما يذكرني بذلك الخليفة الأموي الذي ظل عقودا قبل خلافته يصلي ويتنفل ويقرأ القرآن الكريم في الكعبة، وعندما جاءه البشير بانتقال الخلافة إليه وضع المصحف الشريف على الرف وقال مخاطبا إياه: "الآن انتهى عهدك"، وكان أول سماط مده لوجبة العشاء وهو خليفة ممدودا فوق جثث خصومه من قومه، وكان بعضهم مازال "يلعبط" تحت السماط ومن فوقه الطعام!

وفي الفكرة – فاء مفتوحة – التي جاءتني بعد سكرة الاندهاش والبحلقة، أدركت بيقين كامل أن المخاوف التي طالما طوقتنا واعتصرت كياننا وظن البعض أنها انتهت، لم تنته بعد، وفي مقدمتها التآمر الإرهابي الدموي المسلح الذي يهدد حياة قائد ثورة يونيو ورئيس الجمهورية الذي لن أطنب في مسوغات احترامي له وتقديري الذي بلا حدود لما يؤديه لأجل هذا الوطن، رغم إدراكي لثغرات عديدة موجودة في المسار الراهن، ويهدد معه كل من هم مصنفون عند الإخوان والسلفيين وتيار التأسلم المستنير إياه من الأعداء والخصوم، ذلك أن الأمر ليس شخص الرئيس وفقط وإنما وبالمنطق سوف يتجه الاستهداف إلى كل من يعتقد، أمثال سيف عبد الفتاح، وهو من هو، بما يفترض أنه عقل وثقافة وعلم ووعي، أستاذ علوم سياسية، أنهم خطر بأشخاصهم على المشروع الإخواني.

وكما هو معلوم فإن أولئك البغاة يجدون وبسهولة وعبر المسار التاريخي للتأسلم السياسي ما يرتكزون عليه من فقه فاسد الأصول معوج الأركان ليسوغوا لأنفسهم ولمن يصدقونهم قتل الآخرين، حتى لو وصل القتل كما قال مرسي في خطاب علني: "إيه يعني لو ضحينا بمليون شخص مقابل أن المجتمع يبقى كويس ويعيش"!!

نحن مازلنا أمام خطر حقيقي لم ينته بعد، وإنما قد يتصاعد في المرحلة المقبلة ويستهدف دوائر بعينها وشخصيات بذاتها، لأنهم في ظني يراهنون على أن المزيد من القتل والدم وترويع الناس وإرهابهم يمكن أن يدفع كثيرين إلى التسليم ورفع الذراعين والكفين لأعلى حتى لو كان الثمن هو عودة السيطرة والتسلط الإخواني الغاشم على مقاليد الحكم ومصير الوطن.. وفي هذا السياق لا أظن أن "التقية" التي يحيط بها السلفيون أنفسهم وأفكارهم وتحركاتهم يمكن أن يستمر انطلاؤها على أحد، لأنني أعتقد أنهم عند أول منعطف سيشعرون فيه بإمكانية عودة الإخوان تحت شلالات الدم والعنف فسوف يفصحون عن أنهم مع الحكم الإسلامي ولا سواه وسوف يجدون عشرات المبررات الفقهية أيضا لتفسير ما اتخذوه من مسلك بعد زوال حكم الإخوان.

ومن سيف عبد الفتاح الذي بقي في مصر يقيم في منزله ومع أسرته بعد 30 يونيو وأذكر أنني كلمته هاتفيا أطمئن عليه وداعبته بأنني أسمع في الهاتف صراخ أطفال صغار من حوله، وهل مازال ينجب صغارا؟ فأجابني أنهم أحفاده، ثم خرج من مصر ولم يسجن أو يقتل.. منه إلى آخرين أصادفهم على الفيس بوك وأعرف بعضهم معرفة قريبة وثيقة لم يكن من بينها أن لهم اهتمامات سياسية يومية بل وأحيانا لحظية، لأنك تجد الواحد منهم وقد اتخذ من اصطياد كلمة لرئيس الجمهورية أو حركة أو لمسؤول آخر أو اصطياد واقعة بذاتها، سبيلا لكي يكتب ما يظن أنه سيجعله معارضا أشوس وبطلا من أبطال رص الحروف وتنميق العبارات وإطلاق "الإفيهات" التعبانة ثقيلة الظل.. ورغم تفاهة ما يكتبون ووضوح أنه اصطياد واستجلاب لإعجاب المعتوهين، إلا أنه هو الوجه المتمم لما أطلقه سيف عبد الفتاح، لنجد أنفسنا أمام سعي لاغتيال الشخص وسعي لاغتيال الشخصية.

حفظ الله مصر.. وحمى مؤسساتها ومن يتحملون بصدق وإخلاص وتجرد مسؤولية إنقاذ الوطن.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 14 مارس 2019.

No comments:

Post a Comment