Thursday 28 March 2019

القرار الأمريكي وتقسيم الأدوار وتكاملها





كنت قد أنهيت كتابة مقال اعتمدت في مادته على كتاب للعلامة القانوني والسياسي المفكر الراحل الدكتور عصمت سيف الدولة، وعنوان الكتاب هو "رأسماليون وطنيون.. ورأسمالية خائنة"، ثم وضعت ما كتب جانبًا لأكتب عن قرار ترامب الذي يعترف بضم مرتفعات الجولان للدولة الصهيونية.

وبداية أقول إنه لا جديد في السياسة الأمريكية بهذا القرار، اللهم إلا اختلاف درجة الانحياز المفضوح الواضح لليهود. فمنذ رفض أو اعتذر الرئيس الأمريكي ولسون عن عدم استقبال الوفد المصري الذي تشكل لعرض قضية استقلال مصر وإنهاء الاحتلال البريطاني في مؤتمر الصلح، عند انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى الآن، والخبرة السياسية المصرية بل وعلى مستوى العالم الثالث كله ومعه العديد من الدول الأخرى من خارجه؛ تقول إن الإدارات الأمريكية لديها ثوابت شبه مقدسة، ترقى عند أمريكيين كثيرين إلى مستوى المعتقد الديني والوطني الذي لا يجوز المساس به من قريب أو بعيد. ومن تلك الثوابت تأييد ومناصرة وتقوية وشراكة الدولة الصهيونية، حتى إن اصطدم ذلك بالشرعية الدولية وبكل ما هو قانوني أو من الأعراف الإنسانية المستقرة في الوجدان البشري، وإذا كان ثمة استثناء فهو نزوع الرئيس جون كنيدي إلى تفهم إمكانية وجود وجاهة في وجهة النظر المصرية والعربية، ولم يكن مصرعه مقتولًا أو مغتالًا بمعزل عن تصميم جهات كثيرة على وأد أي محاولة خروج عن المسار الصهيوأمريكي. وهناك وجهات نظر فكرية وسياسية لبعض المفكرين والسياسيين الأمريكيين حاولت وتحاول انتقاد هذا المسار وذلك الانحياز المطلق، إلا أنها كلها تصادر ويتعرض أصحابها للاضطهاد والعزل والتشويه.

ويأتي قرار ترامب ليدفعنا إلى تأمل بعض الظواهر التي نراها ونعايشها، وقد نكون جزءا منها، لنربط بين ما يحدث في أمريكا وفي مصر وفي المنطقة العربية! ولا أبالغ إذا قلت إنني أعلم مسبقًا أن هناك من سيصف هذه السطور بأنها شكل من أشكال التفكير التآمري الساذج، وإذا قلت إنني سأمتنع عن ذكر الأسماء، التي هي يقينا طرف أصيل في التخطيط الأمريكي والصهيوني، ومصدر الامتناع هو احترام ضوابط النشر.

لقد مضت الولايات المتحدة والتحالف الأطلسي والدولة الصهيونية في تصفية حركات التحرر الوطني في العالم كله، وقوّضت كل المحاولات التي كانت تبحث عن طريق ثالث إبان الحرب الباردة، ونجحوا في ذلك، ثم انتقلوا إلى ضرب التجارب الوطنية في الحكم وتقويض كل مضامين التحرر السياسي والاجتماعي واغتيال سمعة وشخصية هذا التوجه بمفكريه وناشطيه وقواه الاجتماعية، وتم استدعاء البعد الديني، وخاصة السلفي الأصولي بمضامينه ونصوصه ودعاته وتنظيماته والدول المنتجة والراعية له، ليصبح سلاحًا ماضيًا وقويًا للإجهاز على ما تبقى من فكر وحركة تحرريين، وهو ما ذكره ولي العهد السعودي منذ شهور!

وبالخبرة المتوارثة منذ أدركت بريطانيا أن أي تخطيط لتدمير الوحدة الوطنية المصرية لا بد أن ينهض به مصريون، فكان إنشاء وتبني وتمويل جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1928، فإن الأمريكان والتحالف الأطلسي والصهيوني اعتمد على هذه الخبرة البريطانية العتيدة، فتم الاعتماد على من هم من أبناء المنطقة للمساهمة الفعالة في إتمام اغتيال كل ما هو فكري وثقافي وسياسي واجتماعي، يحمل في ملامحه وخطابه ومواقفه أي استمرارية للتحرر الوطني والتحرر الاجتماعي ومواجهة الاستعمار الجديد والتصدي للصهيونية، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من أبشع أنواع ودرجات الاستعمار الاستيطاني العنصري.

وتعالوا بنا نتأمل الإصرار المستميت من صحفيين وكتاب ومراكز أبحاث وصحف خاصة ومؤتمرات وندوات، على الاستمرار في الهجوم الضاري على النموذج المصري والعربي والعالمثالثي الذي ظهر في الخمسينيات والستينيات، وكانت مصر ثورة يوليو هي أبرز من قاد تلك الفترة.. والمدهش أنه رغم تراكم الزمن وتعاظم المتغيرات ورغم ما أحرزه التحالف الصهيوأمريكي الأطلسي من انتصار في ذلك المضمار الذي نتحدث فيه، ورغم وجود عشرات القضايا والمشاكل التي تستحق صرف الجهد إليها، إلا أن فلانًا وعلانًا وترتانًا– ولا أريد أن أذكر الأسماء– ما زالوا يواصلون الحرب والقصف والاغتيال، بل إن أحدهم أوغل في مهمته لدرجة الهذيان، فطالب بتغيير تاريخ عيد الاستقلال.. ولا يمر شهر أو أسبوع إلا وتراه قد فتح النار على يوليو والتحرر والعروبة والاشتراكية وغيرها، وطالب آخر- يبدو أنه متدرب في الورشة ذاتها- بتغيير العلم الوطني وتغيير اسم الدولة، ولو ظللت أحصي النماذج فلن أنتهي.

هو إذن تقسيم أدوار أو قل إنها معركة الأسلحة المشتركة، فالأمريكان والصهاينة بالطيران والسلاح الثقيل.. وبعض دول المنطقة بالمال والإيواء والرعاية، وهي ومعها طابور طويل ممن يعملون في مجال الأبحاث والصحافة والإعلام، يقدمون الأسس والمضامين الفكرية التي تبدو كمروحة واسعة تمتد من فقه ابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب إلى البنا وقطب والإخوان، إلى ما يبدو ظاهريًا أنه النقيض العلماني الحديث لكنه يتكامل بحكم طبيعة المهمة مع الطرف ذي المرجعية الدينية!

قرار ترامب بالقدس عاصمة وبضم الجولان لم يأت من فراغ، وإنما هو محصلة لتخطيط وجهود طويلي الأمد، ولن يتوقف ذلك الطابور عن مهمته التي تدر أموالًا ومناصب وأدوارًا، ويالفاجعة أمة في حاضرها ومستقبلها عندما تصبح الخيانة وجهة نظر.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 28 مارس 2018.

No comments:

Post a Comment